أظهر استطلاع للرأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام، الأربعاء الماضي، أن نحو 63 في المائة من الفرنسيين يفضلون حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، فيما يسعى رئيس الوزراء فرانسوا بايرو جاهداً لإنقاذ حكومته ذات الأقلية البرلمانية.
ويواجه بايرو خطر انهيار حكومته الشهر المقبل، بعد إعلانه الاثنين الماضي، عن تصويت ثقة "عالي المخاطر" بشأن خطة تقشفية لا تحظى بالشعبية بقيمة 43.8 مليار يورو، في خطوة أثارت صدمة داخل المشهد السياسي.
ووفقاً لآخر استطلاع رأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام لصالح قناة RTL، والذي أُجري في اليوم التالي لمؤتمره الصحافي، فإن 68 في المائة من الفرنسيين لا يرغبون في أن يصوت النواب على منح الثقة.
ويتبنى هذه المعارضة أغلبية واسعة من أنصار حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بنسبة (89 في المائة)، والخضر (85 في المائة)، وفرنسا الأبية LFI، والحزب (75 في المائة). فيما أيد المقربون من حزب النهضة منح الثقة بنسبة (73 في المائة)، بينما أنصار حزب الجمهوريين في حالة انقسام بشأن المسألة (52 في المائة مؤيدون، 48 في المائة معارضون).
تفاوض مباشر
في خطوة أثارت حالة من الترقب السياسي، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، أنه سيتفاوض مباشرة مع النواب الأسبوع المقبل، محذراً من إجراء انتخابات جديدة، في ظل معركته لمنع البرلمان من إجباره على الاستقالة، عبر تصويت على الثقة، في 8 شتنبر المقبل، بحسب "بلومبرغ".
ووصفت الوكالة قرار بايرو المفاجئ بإجراء تصويت على الثقة، أعاد فرنسا إلى "حافة الشلل السياسي"، ما يهدد باضطرابات مالية واقتصادية محتملة.
وفي ظل افتقار بايرو إلى الأغلبية البرلمانية، وتوحد الأحزاب المعارضة ضده بهدف إسقاطه، تواجه البلاد خطر الدخول في فراغ حكومي، وغياب رؤية واضحة للتعامل مع عبء الدين العام، الذي وصفه رئيس الوزراء بـ"المدمر".
وقال بايرو في مقابلة مع قناة TF1، الأربعاء الماضي: "مقتنع أنه خلال الأيام الـ12 المتبقية، ستدرك الأحزاب السياسية التي أعلنت نيتها إسقاط الحكومة أنها تسرعت في قرارها وتجاوزت الحد".
وكان سلف بايرو، ميشيل بارنييه، قد أُطيح به في ظروف مشابهة في دجنبر الماضي، بعدما انقسمت الجمعية الوطنية (البرلمان) إلى ثلاثة تكتلات متعارضة يصعب التوفيق بينها، وذلك منذ أن دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى انتخابات مبكرة في يونيو من العام الماضي.
تحذيرات بايرو
حذر بايرو من إجراء انتخابات برلمانية جديدة، مشيراً إلى أن مطالب اليسار المتطرف واليمين المتطرف متعارضة تماماً.
وفي حال تم إجبار رئيس الوزراء على التنحي، يمكن لماكرون اختيار رئيس حكومة جديد أو حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات.
وقال بايرو: "هل سيمنحنا حل البرلمان استقراراً، وهل سيمنح البلاد وحكومتها الإرادة والعزيمة للمضي قدماً؟ لا أظن ذلك".
وأضاف التقرير أن المستثمرين بدأوا بالفعل في إعادة تقييم المخاطر، إذ أقدموا على بيع الأصول عقب إعلان بايرو المفاجئ عن تصويت الثقة الاثنين الماضي.
وفي محاولة لإقناع الأحزاب المعارضة بعدم إسقاطه في 8 شتنبر، أوضح بايرو أن التصويت سيتركز على ما إذا كان النواب يتفقون معه في ضرورة تحقيق وفورات مالية، على أن تُناقَش التدابير المحددة التي اقترحها في يوليوز في مرحلة لاحقة.
فرص النجاح محدودة
تبدو فرص نجاح بايرو محدودة، بحسب "بلومبرغ"، إذ أكد عدد من النواب أن هذا النهج سيُلزمهم بخطة ميزانية بايرو، التي تدعو إلى تخفيضات في الإنفاق تصل إلى 44 مليار يورو، إلى جانب زيادات ضريبية، ويقول إنها ضرورية في النهاية لخفض عجز الميزانية إلى 4.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ5.4 في المائة متوقعة هذا العام.
وأشارت الوكالة إلى أن 3 من أكبر الكتل المعارضة في الجمعية الوطنية الفرنسية، وهي حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، وحزب "فرنسا الأبية" اليساري، والحزب الاشتراكي، قد أعلنوا أنهم سيصوتون لإقالة بايرو.
وخلال مقابلته التلفزيونية، الأربعاء الماضي، أبدى بايرو موقفاً متشدداً بشأن حجم تخفيض العجز، لكنه ترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية تعديل الزيادات الضريبية أو تخفيضات الإنفاق.
وقال: "مستعد لمناقشة أي موضوع مع الأحزاب الأخرى، لكنني لن أتراجع عن ضرورة اتفاقهم على الجهد الذي تحتاج فرنسا إلى القيام به لخفض مديونيتها". وأضاف: "لا أساوم، بل أقول فقط: هل يمكننا الاتفاق على جدية وإلحاح الأمر؟".
وجاء قرار بايرو بالمخاطرة بفقدان الثقة في البرلمان بالتشاور مع ماكرون، الذي جدد دعمه الكامل لهذه الخطوة خلال اجتماع مجلس الوزراء الأربعاء الماضي، وفقاً لما نقلته المتحدثة باسم الحكومة صوفي بريماس.
ومع ذلك، فإن السقوط المحتمل لرئيس الوزراء سيُلقي على عاتق ماكرون مسؤولية تعيين بديل له أو اتخاذ خطوة أكثر جذرية تتمثل في إجراء انتخابات تشريعية جديدة. وأوضحت المتحدثة باسم الحكومة أن الخيار الأخير لم يُناقَش خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير.
مقامرة خطرة
تصف صحيفة "إل باييس" الإسبانية الخطوة السياسية المثيرة بفرنسا بأنها "مقامرة سياسية محفوفة بالمخاطر"، مشيرة إلى أن بايرو، عمدة مدينة باو، يسعى لكسب دعم البرلمانيين لتتمكن حكومته من بدء مناقشة مشروع الموازنة.
لكن الصحيفة تشير إلى أن التحالف الوسطي الهش الذي يدعم بايرو يفتقر إلى الأغلبية في الجمعية الوطنية، مما يجعل فرص نجاحه ضئيلة.
وفي السياق نفسه، حذرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية من أن فشل بايرو في كسب الثقة قد يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي في فرنسا، وربما يثير الذعر في أسواق الدين، خاصة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض الفرنسية إلى مستويات قياسية.
فيما تتوقع صحيفة "نيويورك تايمز" أن يواجه بايرو مصير سلفه ميشيل بارنييه، الذي أطيح به بعد محاولته فرض إجراءات تقشفية مماثلة.
وتشير الصحيفة إلى أن قرار بايرو طلب تصويت الثقة يعكس هشاشة حكومته، التي تعاني منذ الانتخابات المبكرة التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون الصيف الماضي، والتي أسفرت عن برلمان منقسم وحكومة أقلية.
وفي الوقت نفسه، ترى صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية أن حكومة بايرو "ترتجف"، مشيرة إلى أن قراره بإعطاء الأولوية لتصويت الثقة قبل مناقشة تفاصيل الموازنة هو "مقامرة ذات ثقل كبير".
و لم تتأخر أحزاب المعارضة في الإعلان عن موقفها الرافض، فقد كتب النائب الاشتراكي بوريس فالو على منصة "إكس": "نحن بحاجة إلى رئيس وزراء مختلف، وسياسة مختلفة".
من جهته، ذهب زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلينشون، إلى حد المطالبة باستقالة ماكرون نفسه، معتبراً إياه "المسؤول عن الأزمة". في المقابل، أعرب وزير المالية إريك لومبارد عن أمله في التوصل إلى تسوية مع المعارضة، لكنه أقر بأن ذلك "غير مرجح".
احتمالات استقالة إيمانويل ماكرون
من بين المستطلَعين، 76 في المائة يعتقدون أن مشروع الموازنة لسنة 2026 الذي اقترحه فرانسوا بايرو ليس فعالاً في تقليص الدين العام، و82 في المائة يرون أن الجهود غير موزعة بعدالة وفقاً لقدرة كل طرف.
أما بالنسبة لاحتمال استقالة فرانسوا بايرو إذا لم ينل ثقة الجمعية الوطنية، فـ26 في المائة من الفرنسيين يعتبرون أن انسحابه قد "يزيد الوضع سوءاً في البلاد، وقد يتسبب في أزمة اقتصادية ومالية".
لكن أغلبية المستطلَعين (55 في المائة) يؤكدون أن "الوضع بالفعل خطير جداً من الناحية الاقتصادية والمالية، ولا يمكن أن يكون أسوأ"، في حين يرى 22 في المائة فقط أن استقالة ماكرون المحتملة "ليست مشكلة بالنسبة للوضع الاقتصادي والمالي للبلاد".
وبغض النظر عن رحيل فرانسوا بايرو وفريقه، الذي أصبح شبه محسوم في الأذهان، فإن جميع السيناريوهات تبدو مقبولة بالنسبة للفرنسيين: فإذا كان تعيين رئيس وزراء جديد يحظى بتأييد واسع (81 في المائة)، فإن أغلبية واضحة تؤيد أيضاً حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة (63 في المائة)، بل وحتى استقالة إيمانويل ماكرون (67 في المائة)، وفقاً لشبكة RTL.
من سيخلف فرانسوا بايرو؟
يحذو رئيس الوزراء الفرنسي الأمل في أنه خلال الأيام المتبقية إلى غاية 8 شتنبر، سيختار النواب "المسؤولية" بدلًا من "الفوضى".
وذكرت شبكة RTL أنه خلال الأيام المتبقية، سيكون على فرانسوا بايرو، من دون أغلبية، أن يبذل فيها جهداً مضاعفاً لتفادي هذا السيناريو الذي يبدو في هذه المرحلة حتمياً، إذ أعلنت جميع أحزاب المعارضة حتى الآن أنها لن تصوت على الثقة.
أما بالنسبة لخليفته المحتمل في رئاسة الحكومة، فمع أنه لا توجد أي قوة سياسية تحظى بتأييد أغلبية، فإن الفرنسيين يفضلون بالدرجة الأولى أن يكون رئيس الحكومة منبثقاً عن حزب التجمع الوطني (41 في المائة) أو من المجتمع المدني (38 في المائة).
احتجاج 10 شتنبر
بخصوص التعبئة المقررة في 10 شتنبر للاحتجاج على مشروع الموازنة الحكومية لفرانسوا بايرو، فإن التأييد موجود، لكنه محدود نسبياً: إذ إن 55 في المائة من الفرنسيين يدعمون الحركة بشكل كامل أو يكنون "تعاطفاً" مع الإضراب، في حين يعارضها أو يعاديها 30 في المائة.
وأثرت حالة الضبابية السياسية على الأسهم، والسندات الفرنسية هذا الأسبوع.
وقرار حل البرلمان في يد الرئيس إيمانويل ماكرون وحده، وقال استطلاع الرأي إن 51 في المائة من المشاركين يرون أن الرئيس الفرنسي لن يحل البرلمان.
وسيكون الحل البديل أمام الرئيس الفرنسي، في حالة خسارة بايرو في التصويت على الثقة، هو تشكيل حكومة جديدة.
تداعيات اقتصادية وسياسية
أثارت هذه التطورات قلق الأسواق المالية، حيث انخفض مؤشر كاك 40 الفرنسي بنحو 2 في المائة الثلاثاء الماضي، بعد تراجع بنسبة 1.6 في المائة الاثنين الماضي. كما ارتفع عائد السندات الفرنسية لأجل 10 سنوات إلى 3.52 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ مارس الماضي، وحذر وزير العدل جيرالد دارمانين من احتمال حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة جديدة، بينما أشار لومبارد إلى "خطر" تدخل صندوق النقد الدولي إذا فشلت فرنسا في تنظيم شؤونها المالية.
وتواجه حكومة فرانسوا بايرو أزمة وجودية، حيث يبدو أن تصويت الثقة المقبل قد يكون الحاسم في تحديد مصيرها، مع تصاعد الرفض السياسي والشعبي، وتفاقم التوترات الاقتصادية.