قلت لمحاوري منذ شهر إن الاحتدام الذي تعرفه الانتخابات الأمريكية، واندفاع ترامب قد يعرضانه لمحاولة اغتيال، وحين لاحظت لامبالاته بالنبوءة العارضة، تراجعت ونسيتها أنا أيضا.
الآن يفيق العالم على هذا الحدث، محاولة تصفية ترامب، لنرى الكل يبادر إلى الإدانة. فالواقعة إجرامية وإرهابية، زد على ذلك أن الضحية ليس أيا كان، إنه المرشح الأوفر حظا لرئاسة الدولة التي تحكم العالم.
حوادث العنف ضد الرؤساء والسياسيين كانت دائما موجودة بالولايات المتحدة الأمريكية: يذكر لنا التاريخ، إبرهام لينكولن (الرئيس 16)، جيمس غارفيلد (الرئيس 20)، ويليام ماكينلي (الرئيس 25). وكذلك اغتيال جون كينيدي بدلاس سنة 1963 وأخيه روبيرت بعده بست سنوات بلوس أنجلوس، ثم محاولة اغتيال رونالد ريغان، وهناك محاولات أخرى أقبرت في مهدها استهدفت كارتر وأوباما وبوش الابن وكلينتون... إلخ .
ما وقع بتجمع بنسفاليا سيمثل نقطة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة. إنه انحدار السياسة الأمريكية نحو الاستقطاب الحاد والاحتراب، وبلوغ الانقسام والصراع الإيديولوجي أوجه داخل المجتمع الأمريكي.
الأسباب التي تغذي العنف متعددة ومعروفة بالولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك ليس غريبا أن يصطلي بنار هذا العنف مرارا العديد من رؤسائها وشخصياتها السياسية: السلاح الناري منتشر بكثرة، والجريمة المنظمة والعصابات ليس ما ينقصها، كما أن استمرار التوترات العرقية، وانتشار المخدرات والكحول، واستفحال التفكك الأسري، واستعصاء ولوج الجميع إلى خدمات الصحة العقلية، تشكل عوامل محرضة لدى بعض الفئات، هذا بالإضافة إلى أن الصناعة السينمائية وألعاب الفيديو بدورهما يمجدان ويشيعان العنف وعمليات القتل والتقتيل.
تلك هي أسباب العنف العام، لكن الجريمة السياسية لها عواملها الإضافية. لقد بلغت شيطنة ترامب، حسب بعض المتعاطفين معه، ذروتها أخيرا، حتى أنه تم تشبيهه بأدولف هتلر، كما أن مادونا، التي سبق أن قالت سنة 2017، إنها تتمنى تفجير البيت الأبيض، تمنت مرة أخرى خلال الأسبوع الماضي تصويب البندقية لرأسه، فيما صورت مغنية شهيرة أخرى نفسها وهي تحمل هذه الرأس بالفعل.
وهناك متابعون ومهووسون بمثل هكذا نجمات، يعتبرون تصريحاتهن أوامر ورغبات ينبغي أن تنفذ في الحال. لكن في حالة ترامب، أعتقد أن عدم خروج بايدن من السباق الانتخابي، والذي رفع حظوظ ترامب عاليا، قد يكون جعل بعض مناوئيه، وليسوا بالضرورة من الديمقراطيين، يفقدون صبرهم من كبح تقدمه، فقرروا الإقدام على محاولة اغتياله، كآخر ما تبقى لديهم لأجل استبعاده.
لم يتعرض ترامب لألعاب نارية طائشة، وإنما لرصاص حقيقي، فالحصيلة قتيلان وجريح. منفذ المحاولة ذهب بسره معه، والتحقيقات ستطول، ولربما لا يفرج عنها أبدا. ستتناسل التحليلات إذن، وسيتم تفريخ العديد من الفرضيات...
في مثل هذه الحالات، يبسط النقاش، ويتم التركيز على من لهم المصلحة في إقصاء ترامب من الساحة السياسية، ولم لا من الحياة نفسها. المشكلة أن لترامب أعداء كثر، وكلهم قابلون لأن يكونوا ضمن صك الاتهام، بدءا من منافسيه بحزبه الجمهوري، إلى الديمقراطيين وأتباعهم، إلى الأقليات التي تراه مناهضا لها، إلى الدولة العميقة التي لا نعرف إن كانت حقيقة لا تنظر بعين الرضا لتأثيره المحتمل على الاستقرار الداخلي وعلى دور أمريكا العالمي، أم أنها ترغب به، إلى حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الذين يتوجسون منه على علاقاتها ببلدانهم ويخشون من الحروب الاقتصادية التي قد يشنها عليهم، إلى أعداء واشنطن المعلنين الذين لا يرون فيه عدوا عاقلا يمكن تحسب خطواته، إلى بعض المركبات الاقتصادية والصناعية والاستثمارية التي قد لا تحبذ سياساته المعاكسة لخططها...
لكن المهم في كل هذا هو أن محاولة الاغتيال قد حدثت، وأنها قد فشلت. وبالتالي نجا ترامب بجلده، وحصل زيادة على ذلك على الصورة التي يريد، من دون أن يكون قد تمناها حقا.. أذنه المضرجة بدمائه ستجوب كل العالم، وستقله لا محالة إلى البيت الأبيض. هذا هو المتغير الجديد الذي خلفه الحدث؛ رئيس قد يدخل البيت الأبيض محمولا على أذنه.
لا شيء سيعوض ترامب عما حصل له، إلا منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا وأنه يجيد انتهاز الفرص، ويستثمر في كل شيء. المشكلة أنه إذا رسب، لا أحد سيصدق أنه رسب عن جدارة واستحقاق، بل سينظر إلى فشله كما لو كان مجرد مؤامرة عليه... محض حلقة تنضم إلى مسلسل الملاحقات القضائية التي أرقته، لا بل واغتيالا سياسيا يعوض إخفاق الاغتيال المادي الجسدي، حين أخطأته الرصاصة. وهذه السردية ستكون مضرة بصورة أمريكا. لكأننا بدءا من اليوم لم نعد في مشهد انتخابي أمريكي، وإنما في مشهد هوليودي تكتبه ريشة الواقع هذه المرة لا ريشة الخيال.
الآن انقلبت الآية، لم تعد الصورة التي تبغى مقاومتها ويتعين دحضها تلك التي تظهر أنصار ترامب الغاضبين الموتورين، وهم يهاجمون مبنى الكابيتول، وإنما صارت بدلا منها صورة أخرى تخدم أهداف ترامب المهاجم من الحاقدين، ترامب المعتدى عليه بين حشد من أنصاره بغية تصفيته، ترامب الذي يختبئ تحت المنصة، ثم ينهض، وهو يمسح الدم الذي ينزف منه، ويصرخ، حاربوا حاربوا حاربوا .
هذا المنظر سينفخ في مظلومية ترامب، وسيعلي من حظوظه مهما تضامن معه بايدن، ومهما كان عدد من تعاطف معه من أقطاب ديمقراطيين. لم يعد التطرف لصيقا بالرجل الأبيض، وبذاك المتدين المحافظ الذي تحرضه خطابات ترامب وتدويناته وصراحته الفاضحة الجارحة. لقد عاد ترامب نفسه ضحية للإرهاب. وصار على أمريكا أن تبحث عن الإرهاب خارج مناصريه، الذين سيتقوى إيمانهم بزعيمهم بعد هذه الحادثة، وقد يعطونها بعدا دينيا أو أسطوريا يزيد من عزمهم على النصر.
هذه الحادثة ستجعل أنصاره يسبغون عليه صفة المخلص ويتفانون لأجل إنجاحه، وهو ما يرشح الولايات المتحدة لعنف إضافي واحتقان غير مسبوق.
لو كان بوسع ترامب أن يفعل شيئا الآن دون أن يراه أحد، لذهب ليقبل رأس ذاك المهاجم الذي أراد اغتياله، أو على الأصح لقبل يده التي أخطأت الهدف، فأهدت ترامب هدفه الذي لن يتنازل عنه؛ أن يحكم الولايات المتحدة الأمريكية من جديد.