ظل صندوق الإيداع والتدبير (CDG)، على امتداد أكثر من ستة عقود، إحدى أهم المؤسسات التي يبنى عليها الاقتصاد الوطني في المغرب، فحجمه المالي وتاريخه الحاضر في كل ورش من أوراش الدولة، جعلاه أكثر من مجرد صندوق يدبر الادخار؛ إذ تحول اليوم إلى فاعل تنموي شامل، يحرك الاستثمار، ويوجه السياسات العمومية ويرسم خرائط التنمية المجالية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. ومع إصدار عرضه الاستراتيجي الأخير، يكشف الصندوق عن رؤية جديدة أكثر طموحاً وعمقا، تضيء دوره التاريخي والمستقبلي في بناء مغرب 2030.
بدأت رحلة صندوق الإيداع والتدبير سنة 1959، بظهير ملكي أسند إليه مهمة تدبير الأموال المقننة، والأمانات القضائية والإدارية وودائع المهن القانونية، ثم توسعت صلاحياته تدريجياً ليصبح أمينا على أهم صناديق التقاعد الوطنية. ومع مرور السنوات، تطورت مهامه من حماية الادخار إلى هندسة الاستثمار، ومن إدارة التقاعد إلى دعم القطاعات الإنتاجية، مرورا ببناء المشاريع الحضرية الكبرى، وتطوير المناطق الصناعية وقيادة التحولات السياحية والمالية.
وفي قلب هذا التطور، استمر الصندوق في أداء مهمته الأساسية: حماية الادخار الوطني، وتوجيهه نحو الاستثمارات طويلة الأمد التي تحقق أثرًا اقتصادياً واجتماعياً ملموساً. تعمل مجموعة «CDG» اليوم وفق نموذج اقتصادي مهيكل ودقيق، يستند إلى حكامة حديثة تضم لجانا تنفيذية ورقابية واستثمارية، وإلى هندسة مالية محترفة تدار بمنطق مستثمر مؤسساتي عالمي.
وتنعكس هذه الهندسة في حجم الأصول التي تشرف عليها المجموعة، إذ بلغت الميزانية الإجمالية المجمعة للصندوق والصندوق الوطني للتقاعد والتأمين والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد حوالي 363 مليار درهم نهاية شتنبر 2025، فيما فاقت الأصول تحت التدبير 445 مليار درهم والأصول تحت الحفظ 565 مليار درهم، ما يجعل الصندوق أحد أكبر المستثمرين المؤسساتيين في إفريقيا.
أداة لتوجيه الاقتصاد المغربي
منذ الستينيات، لعب صندوق «CDG» أدوارا محورية في تحديث المغرب: أطلق منظومة التقاعد الحديثة، وبنى أولى التجمعات الحضرية والسكنية الكبرى، وساهم في بناء قطاع السياحة، ورافق شركات استراتيجية من حجم الخطوط الملكية وشركات النقل البري، وشارك في تأسيس وحدات بنكية وتأمينية شكلت لاحقا جزءا من النسيج المالي الوطني.
وفي السبعينيات والثمانينيات، توسعت تدخلاته لتشمل تطوير المناطق الصناعية الأولى، وإطلاق برامج اجتماعية واسعة النطاق، مثل تعميم الولوج إلى الماء الصالح للشرب لفائدة عشرات الآلاف من الأسر. أما خلال العقدين الأخيرين، فانتقل إلى مشاريع من الجيل الجديد: مناطق تكنولوجية، منصات أوفشورينغ، مشاريع حضرية جديدة وصناديق استثمارية موجهة لدعم الشركات الناشئة والقطاعات الاستراتيجية.
الصندوق اليوم ليس مجرد مستثمر، إنه محفز اقتصادي يقود مشاريع كبرى تمتد من طنجة إلى الداخلة. فقد أنجز أو ينجز ما يفوق 2600 هكتار من المناطق الصناعية المجهزة، موزعة على 16 منطقة صناعية، تشمل الجرف الأصفر، سلوان، لوكوس، بوجدور والقنيطرة، فيما توسعت تدخلاته لتشمل مشاريع التحول الصناعي كالقطب الفلاحي ببركان ومنطقة التسريع الصناعي بوجدة. وفي العقار المخصص للإيجار، يعد الصندوق من بين أكبر الفاعلين مع محفظة تبلغ 4 ملايين متر مربع موزعة على الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش وتطوان.
وفي المجال الحضري، لا تزال بصمته واضحة، منذ حي الرياض بالرباط إلى منطقة الكورنيش بالدار البيضاء، مروراً بتجزئات اجتماعية وتجمعات حضرية جديدة بلغ مجموع تجهيزها نحو 3000 هكتار، مع تسليم 18 ألف وحدة سكنية خلال عشر سنوات. أما في السياحة، فطور الصندوق واحداً من أكبر العروض السياحية المتكاملة في البلاد، يشمل 50 أصلاً فندقيا و17 ألف سرير و10 مسارات غولف، موزعة على السعيدية، تغازوت، تمودا باي، الحسيمة، مراكش والدار البيضاء.
استثمار في الرأسمال البشري
لأن الاقتصاد الحديث لا يقوم فقط على البنى التحتية بل أيضاً على الرأسمال البشري، استثمر الصندوق بقوة في اقتصاد المعرفة. فالجامعة الدولية بالرباط، التي يملك فيها 52 بالمئة من رأس المال، تحولت إلى قطب بحثي وتعليمي مصنّف ضمن الأفضل في إفريقيا، بعدد طلبة يقارب 9000، و108 براءات اختراع دولية، وبمعدل إدماج مهني يصل إلى 90 بالمئة في السنة الأولى. وعلى مستوى تكوين الكفاءات الرقمية، أطلق الصندوق مبادرة JobInTech التي خرجت أكثر من ألف شاب في عام واحد بنسبة إدماج تجاوزت 90 بالمئة، في مشروع تعتزم الحكومة تعميمه وطنياً ضمن رؤية المغرب الرقمي 2030.
إطلاق المخطط الاستراتيجي CAP2030
أصبح صندوق «CDG» مرجعاً لتأسيس صناديق الإيداع في إفريقيا، ورافق عدة دول في بناء نماذج مؤسساتية مشابهة، بينها السنغال، موريتانيا، تونس، كوت ديفوار، الغابون والنيجر. إنها دبلوماسية مالية تجعل من الصندوق لاعباً قارياً في تعبئة الادخار وتمويل التنمية. اليوم، ومع إطلاق مخططه الاستراتيجي CAP2030، يعلن الصندوق عن انتقال جديد في رؤيته، يقوم على ثلاثة مستويات متكاملة: استعادة قوة الادخار الوطني، وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات ذات الأولوية وتعزيز التنمية الترابية وفق نموذج مستدام ودامج. وتهدف هذه الخطة إلى مضاعفة القدرة التمويلية إلى ما يقارب 100 مليار درهم، وتحقيق استثمارات مباشرة بقيمة 14 مليار درهم، مع توجيه 8 مليارات درهم نحو رأس المال الاستثماري، في أفق تعبئة ما يصل إلى 15 مليارا إضافية عبر الشراكات. ويركز المخطط على قطاعات المستقبل التي تشكل عمق السيادة الوطنية، مثل الماء عبر مشاريع التحلية وتحديث الشبكات، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيات الحيوية الموجهة للأمن الغذائي والبنيات التحتية الرقمية اللازمة لحماية البيانات السيادية، إضافة إلى التنقل الجهوي، من شبكات RER إلى الترامواي، مع تعزيز الاقتصاد الأخضر عبر حلول تمويلية مبتكرة.
الخطوط العريضة لمخطط الصندوق الاستراتيجي CAP 2030، الذي يشكل خارطة طريق جديدة تعيد ترتيب أولويات تدخلها، تفتح أمام المؤسسة مرحلة أعمق من التحول. هذا المخطط، الذي اكتملت صياغته نهاية 2023 ودخل حيز التنفيذ مطلع 2024، يرسم التوجهات المالية والترابية والقطاعية للمجموعة في أفق سنة 2030.
تعبئة مالية ضخمة في أفق 2030
ترتقب مجموعة «CDG» تعبئة موارد مالية كبيرة والعودة إلى موقع المستثمر الرئيسي في التنمية الاقتصادية والترابية للمملكة. وتشير التوقعات المعلنة إلى مجموعة من الأهداف الواضحة: 47 مليار درهم من التمويلات عبر الدين، مع تعبئة إجمالية لمنظومة صندوق الإيداع والتدبير، بما فيها CNRA وRCAR، للوصول إلى 100 مليار درهم. نحو 8 مليارات درهم في رأسمال الاستثمار، مع تعبئة إجمالية قدرها 15 مليار درهم، موجهة للقطاعات ذات الأثر العالي مثل الصناعة والبنيات التحتية والابتكار. وتندرج هذه الدينامية في سياق عمل صندوق محمد السادس للاستثمار، عبر صناديق تُسَيَّر من قبل فرق خارجية. 14 مليار درهم من الاستثمارات المباشرة باعتبار CDG فاعلاً مباشراً، بهدف تعزيز حضورها في المشاريع الاستراتيجية ودعم التحولات الاقتصادية والاجتماعية، مع الالتزام بمبادئ الاستدامة والربحية المسؤولة. تأثير محفز يتراوح بين 100 و200 مليار درهم من المشاريع على الصعيد الوطني، مدفوعاً بتعبئة الشركاء وتعزيز آليات المجموعة.
بالتوازي مع ذلك، تتوقع المجموعة ارتفاع الودائع بنسبة 31 بالمئة لتصل إلى 210 مليارات درهم في أفق 2030، إضافة إلى مضاعفة الأموال الذاتية إلى 18 مليار درهم.
رؤية مبنية على ركيزتين: تأمين الموارد وتعظيم الأثر
تعتمد الاستراتيجية الجديدة لـ«CDG» على ركيزتين متكاملتين: حماية الموارد تحت التسيير وتعزيز الأثر الاقتصادي والاجتماعي.
الركيزة الأولى تهدف إلى تحصين نموذج «صندوق الإيداع» عبر «تعزيز مكانتها كمدبر مرجعي لأنظمة التقاعد والودائع المنظمة، مواكبة الإصلاحات الوطنية من خلال عرض موحد لتدبير التقاعد، تطوير إمكانيات الادخار الشعبي وتعبئة الادخار الوطني، تحسين الخدمات الموجهة للمهن القانونية والودائع، بما يعزز دورها كطرف ثالث محل ثقة.
أما الركيزة الثانية فتركز على رفع الأثر السوسيو–اقتصادي من خلال فك العزلة عن الأقاليم ودعم التشغيل عبر استثمارات محدثة للقيمة، تطوير تمويل شامل لفائدة المقاولات الصغيرة جداً والصغيرة والمتوسطة، والنساء والشباب، والاقتصاد الاجتماعي، إدماج معايير الاستدامة والتكيف المناخي في مختلف تدخلاتها.
تسعى CDG إلى إعادة هيكلة مجالات ترابية واسعة حول منظومات إنتاجية متكاملة، بما يعزز التوازن الجهوي ويوفر قاعدة لنمو اقتصادي شامل. وفي هذا الإطار، ستواصل المجموعة تطوير مناطق حضرية مرجعية مثل زناتة، كازا أنفا، النسيم وحي الرياض، عبر نهج يقوم على التخطيط المندمج الهادف إلى خلق أحياء مختلطة، مستدامة وجذابة، قادرة على تحريك الدينامية الاقتصادية في محيطها. يقوم هذا النهج على جعل التخطيط الحضري إطاراً آمناً ومشجعاً لجذب الاستثمارات وتعزيز تنافسية المدن الكبرى. وتضع المؤسسة التصنيع الجهوي ضمن أولوياتها، إذ تعمل على تطوير منظومات صناعية متكاملة تعتمد على تثمين الموارد المحلية، وتقوم على التزامات واضحة بالشغل والاستقرار، بعيداً عن أي مضاربات عقارية. وتشكل مناطق التسريع الصناعي مثل عين الشكاك وأهل أنكاد نموذجاً لهذا التوجه.
التكنولوجيا بدورها حاضرة بقوة في رؤية الصندوق، من خلال مشاريع مثل Casablanca Tech Valley وAgadir Tech ValleyوDakhla Tech Valley، الهادفة إلى استقطاب الشركات العالمية وتعزيز السيادة الرقمية وخلق آلاف مناصب الشغل المؤهلة. وتوفر هذه المشاريع بيئات تكفل الابتكار والبحث والتكوين، وتساهم سنوياً في استقرار شركات تكنولوجية جديدة. وتعبئ CDG أيضاً خبرة فروعها الهندسية لدعم الأقاليم في تنفيذ مشاريع كبرى تتعلق بالتنقل، والانتقال الطاقي والبنيات التحتية المعقدة، ما يضمن فعالية الاستثمار العمومي ويعزز مردوديته.
قطاعات السيادة.. تدخل موجّه لحل أولويات المغرب
ترتكز الرؤية الاستراتيجية CAP 2030 على دعم القطاعات ذات البعد السيادي، اعتماداً على قدرة المؤسسة على التمويل والهيكلة والمواكبة التقنية للمشاريع المعقدة التي تحتاج إلى رأسمال صبور وخبرة تقنية متقدمة. الماء يأتي في مقدمة هذه القطاعات، بالنظر إلى الضغط المائي البنيوي الذي يواجهه المغرب. وتسعى «سي دي جي» إلى دعم مشاريع التحلية، وتحديث الشبكات، ومعالجة المياه العادمة، والري، بهدف تعزيز الأمن المائي عبر تدبير أكثر استدامة ومرونة. الانتقال الطاقي يشكل مجالاً رئيسياً ثانيا، حيث تعتزم المجموعة دعم إنتاج الطاقة المتجددة سواء الشمسية أو الريحية أو الكهرومائية إلى جانب تعزيز شبكات النقل وتطوير حلول الطاقة اللامركزية، بما يخدم السيادة الطاقية والتنافسية الصناعية. السيادة الغذائية بدورها تعد محوراً رئيسياً، مع تركيز خاص على التكنولوجيا الحيوية، سيما في إكثار البذور، وبناء قدرات التخزين الاستراتيجي للحبوب والمواد الفلاحية، إضافة إلى الاستثمار في سلاسل تحويل ذات قيمة مضافة تستهدف تأمين الإمدادات الوطنية وتعزيز الصادرات. أما السيادة الرقمية فتحتل موقعاً متقدمًا في رؤية المؤسسة، عبر دعم رقمنة الخدمات العمومية وتطوير بنية تحتية وطنية لتخزين البيانات، بما يضمن حماية المعطيات الاستراتيجية وتعزيز استقلالية المغرب في المجال الرقمي. ويعكس هذا التوجه قناعة بأن الرقمنة أضحت شرطاً أساسياً للتنافسية ولتعزيز مكانة الاقتصاد الوطني.
مونديال 2030.. فرصة لتسريع مشاريع الصندوق
مع اقتراب المغرب من استضافة مونديال 2030، ينظر صندوق «CDG» إلى الحدث باعتباره فرصة لتسريع تنفيذ مشاريعه الكبرى، خصوصاً في النقل واللوجستيك والتنمية الحضرية وتعزيز العرض السياحي. ولأجل ذلك، يسعى الصندوق إلى لعب دور الرافعة المالية التي تعبئ الشركاء الوطنيين والدوليين، وتوجه الموارد إلى المشاريع ذات الأثر القوي.
يبدو واضحا أن صندوق الإيداع والتدبير لم يعد مجرد فاعل مالي في محيط الدولة، بل أصبح جزءاً من بنيتها الاستراتيجية. إنه مؤسسة تنسج خيوط المستقبل الاقتصادي للمغرب بصمت، وتعيد رسم خرائط المدن والمناطق الصناعية والسياحية، وتوفر التمويل للمقاولات والمشاريع ذات الأولوية، وتستثمر في العقول قبل الهياكل. ومع إطلاق رؤية 2030 CAP يتحول الصندوق إلى رافعة شاملة للتنمية، تجمع بين حماية الادخار، وتوجيه الاستثمار وتحقيق الأثر الاجتماعي والاقتصادي، في مسار يبدو أنه سيواكب المغرب خلال العقد المقبل كأحد أعمدته الأكثر استقرارا وابتكارا.