أعلنت ميليشيا الدعم السريع سيطرتها على مدينة الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور غربي السودان، بعد اشتباكات عنيفة مع الجيش السوداني، مخلفة وراءها مشهداً مأساوياً من الدمار والمعاناة. وحذرت الأمم المتحدة من تدهور الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي، مع تقارير عن مقتل المدنيين، وإعدامات، وشنق في الأشجار، وانتهاكات لا يُمكن للعقل البشري استيعابها، فيما يواجه السكان انقطاعاً شبه كامل للخدمات الأساسية ونقصاً حاداً في الغذاء والمياه والرعاية الطبية.
واتّهمت القوة المشتركة للحركات المسلحة في دارفور، غربي السودان، الثلاثاء 28 أكتوبر، ميليشيا الدعم السريع بقتل ألفي مدني في مدينة الفاشر خلال اليومين الماضيين.
وخيمت عبارات مثل «الفاشر بلون الدم»، و«أنقذوا الفاشر»، على التغطية الإعلامية، ونداءات على منصات التواصل تتصاعد عربياً، بشأن تلك المدينة السودانية.
واحتوت بعض الهاشتاغات الداعمة للمدينة على عبارات تشير إلى أن «السودانيين في مدينة الفاشر يموتون بأبشع أنواع الطرق، يُبادون دون أي سبب، ولا يستطيعون حتى النزوح إلى أي مكان، والموت يلوح في كل شبر في تلك المدينة».
ومنذ 15 أبريل 2023، يخوض الجيش وميليشيا الدعم السريع، بزعامة عبد الرحمن دقلو، المعروف باسم حميدتي، حرباً لم تفلح وساطات إقليمية ودولية عديدة في إنهائها، قُتل خلالها نحو 20 ألف شخص، وتشرد أكثر من 15 مليوناً بين نازحٍ ولاجئ، وفقاً لتقارير أممية ومحلية، في حين قدّرت دراسة أعدّتها جامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألف شخص.
الدعم السريع تسيطر على إقليم دارفور
قالت ميليشيا الدعم السريع في السودان، يوم الأحد 26 أكتوبر، إنها سيطرت على مقر قيادة الجيش في الفاشر، وهي آخر مدينة يحتفظ الجيش بالسيطرة عليها في إقليم دارفور بغرب البلاد.
وأظهرت مقاطع مصوّرة نشرتها الدعم السريع بعض أفرادها يهتفون أمام لافتات لقيادة الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش.
وقالت منظمة الهجرة الدولية، يوم الاثنين الماضي، إن التقديرات الميدانية تشير إلى نزوح أكثر من 26 ألف شخص من مدينة الفاشر خلال 48 ساعة.
ولفتت المنظمة إلى أن هذه الأرقام أولية وقابلة للتغيير، نظراً لاستمرار انعدام الأمن وتسارع وتيرة النزوح.
وسيطرت ميليشيا الدعم السريع، يوم الاثنين، على مدينة بارا في ولاية شمال كردفان، التي تمثل حاجزاً بين دارفور والعاصمة السودانية، والنصف الشرقي من البلاد الذي يسيطر عليه الجيش.
انسحاب قوات الجيش من الفاشر
قال رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، عبد الفتاح البرهان، إن القيادة العسكرية قررت مغادرة الفاشر لتجنيب المواطنين والمدينة مزيداً من «التدمير والقتل الممنهج» على يد الدعم السريع.
وقال البرهان، الذي يتولى قيادة الجيش، في خطاب متلفز بثه التلفزيون الرسمي: «الجميع يتابع ما حدث في الفاشر، والقيادة الموجودة هناك، بما فيها لجنة الأمن، قدّروا أنه يجب أن يغادروا المدينة لما تعرضت له من تدمير ممنهج وقتل ممنهج للمدنيين».
وأوضح المتحدث أن القيادة العسكرية في الفاشر «رأوا أن يغادروا، ووافقناهم، على أن يغادروا المدينة إلى مكان آمن حتى يُجنّبوا بقية المواطنين وبقية المدينة الدمار».
وأضاف: «هذه محطة من محطات العمليات العسكرية التي فُرضت علينا كشعب سوداني، ونحن نقولها دوماً ونكرّرها: الشعب السوداني سينتصر، والقوات المسلحة السودانية ستنتصر».
ومترحّماً على ضحايا القتال في المدينة، قال البرهان: «نخصّ الآن شهداء مدينة الفاشر، الفاشر الصمود، التي قدّمت، وقدم أبناؤها جميعاً، دروساً في الوطنية، ودروساً في الشجاعة ونكران الذات».
وأردف: «نُطمئن أهلنا في كل مكان بأننا عازمون على أن نقتص لكل شهدائنا، عازمون على أن نقتص لما حدث من الجرائم التي ارتُكبت اليوم في الفاشر».
ولفت البرهان إلى أن «هذه الجرائم ارتُكبت قبل ذلك في كل بقاع السودان، على مرأى ومسمع من العالم، ومخالفة لقرارات مجلس الأمن». وشدّد على أن «كل الأعراف الدولية الآن يتم انتهاكها، ولا أحد يتحدث عن ذلك، ولا أحد يُحاسب».
قتل ألفي شخص وانتهاكات أخرى
اتهمت الحكومة السودانية قوات الدعم السريع بارتكاب فظائع بحق المدنيين خلال استيلائها على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، إذ تحدث مسؤولون في مؤتمر صحفي، أول أمس الأربعاء، عن قتل أكثر من ألفي شخص وإعدام جرحى وتصفية عاملين بجمعيات خيرية، وانتهاكات أخرى من بينها الخطف والتعذيب.
وقالت مفوضة العون الإنساني بالإنابة منى نور الدائم حسن -خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد في بورتسودان- إن «الأرواح تنتزع بوحشية، ولا نزوح آمنا ولا مساحة للنجاة»، متهمة قوات الدعم السريع باستهداف الفارين بالقتل والنهب والسلب على مرأى من العالم.
وأضافت المتحدثة أن هناك أمورا «لا يستوعبها عقل» تحدث في السودان، وانتهاكات تصل إلى جرائم ضد الإنسانية، مستنكرة صمت المجتمع الدولي عن هذه الفظائع.
وجرى قتل فرق طبية بمستشفيات مدينة الفاشر وقتل متطوعين يخدمون الأهالي في التكايا والفرق الميدانية للهلال الأحمر السوداني، كما تمت تصفية جرحى في المستشفيات وقتل مواطنين على أساس عرقي.
وذكرت المسؤولة السودانية أن حوالي 800 ألف مدني كانوا يعيشون في منطقة الفاشر، وقُتل منهم خلال هذا الاجتياح أكثر من ألفي شخص، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، كما جرى إعدام فرق التكايا والمساعدات وقتل رموز المجتمع خلال اليومين الماضيين.
وأشارت إلى استهداف الأطر الطبية بالقتل والاختطاف، وقالت إن المدنيين الفارين من القتال في محيط الفاشر يتعرضون للقتل والتعذيب بصورة بشعة.
وانتقدت المفوضة صمت المجتمع الدولي تجاه مشاركة بعض دول الجوار في الحرب الدائرة في السودان.
رسائل للمجتمع الدولي
قال وكيل وزارة الخارجية السودانية حسين الأمين، للجزيرة نت، إن ما حدث في الفاشر نتيجة لتراخي المجتمع الدولي الذي ظل يتابع الانتهاكات في الفاشر منذ حصارها في ماي 2024 دون أن يتدخل.
وطالب الأمين المجتمع الدولي باتخاذ تدابير عاجلة لردع قوات الدعم السريع وتصنيفها منظمة إرهابية ومعاقبة الدول الداعمة لها.
وبدوره، دعا وزير الثقافة والإعلام السوداني، خالد الإعيسر، جميع دول العالم إلى إدانة الجرائم المرتكبة في السودان وممارسة الضغط لوقف هذه الانتهاكات.
وقال الإعيسر إن هناك «غرفا إلكترونية تدار من خارج السودان» لمساندة قوات الدعم السريع وهزيمة الشعب السوداني معنويا، على حد تعبيره.
تحذيرات منظمة الصحة
قال المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، للجزيرة، إن الوضع مروع في الفاشر، مؤكدا أن المستشفى الوحيد المتبقي في المدينة تعرض لهجوم وقُتل أفراد من الطاقم الطبي، مشيرا إلى أن نصف سكان السودان حاليا يعانون سوء التغذية.
وأوضحت منظمة الصحة العالمية، كذلك، أن هناك مدنيين عالقين وسط القتال ومعزولين عن المساعدات الإنسانية، ودعت إلى إطلاق سراح جميع العاملين في القطاع الصحي وتوفير وصول آمن للمساعدات ووقف إطلاق النار بالسودان.
أهمية مدينة الفاشر
تحظى الفاشر، وهي عاصمة ولاية شمال دارفور، بل ومركز إقليم دارفور برمّته، بأهمية استراتيجية كبيرة لكلٍّ من طرفَي الصراع في السودان.
وكانت المدينة آخر معاقل الجيش السوداني في ولايات دارفور الخمس، التي استولت قوات الدعم السريع على عواصمها خلال عام من الحرب، وهي: الجنينة (غرب دارفور)، ونيالا (جنوب دارفور)، والضعين (شرق دارفور) وزالنجي (وسط دارفور).
وفي الآونة الأخيرة، كثّفت الدعم السريع من هجماتها على المدينة من عدة محاور، بعد أكثر من عام من حصارها، إلا أن قوات الجيش أعلنت، حتى السبت، نجاحها، بمساندة القوات المشتركة للحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق سلام، والمقاومة الشعبية، في التصدي للهجوم والدفاع عن المدينة.
وبلغ عدد هجمات الدعم السريع على المدينة حوالي 267 هجوماً، تمكّنت قوات الجيش من صدّها، بحسب الفرقة السادسة مشاة للجيش بالفاشر.
وتكمن أهمية الفاشر في موقعها الجغرافي الاستراتيجي، إذ تحدّها تشاد غرباً وليبيا شمالاً، ما يجعل السيطرة عليها هدفاً حيوياً للطرفين، كما تُعدّ مفتاح السيطرة على الإقليم الواقع غرب السودان.
ويوجد في الفاشر، التي تبعد بأكثر من 800 كلم إلى الغرب من العاصمة الخرطوم، ونحو 195 كلم عن مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، مطار رئيسي يستقبل المساعدات الإنسانية المحلية والدولية، كما تقع بمحاذاته قاعدة جوية للجيش السوداني.
ولاية شمال دارفور، التي تضم الفاشر، هي أكبر ولايات إقليم دارفور الخمس، وتحتل أكثر من نصف مساحة الإقليم، بمساحة تبلغ 290 ألف كيلومتر مربع.
ويجعل موقعها المتميّز الوصول إليها ممكناً من مدن شمال السودان، لإيصال المساعدات القادمة من ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.
وتحتضن الولاية العشرات من مخيمات النازحين التي أُقيمت منذ اندلاع الحرب في دارفور عام 2003، إلى جانب موجات نزوح جديدة منذ حرب أبريل 2023.
وصارت المدينة مركزاً تجارياً مهماً في المنطقة، لاحتوائها على أكبر الأسواق التجارية، ووقوعها في بقعة تتوسط ولايات دارفور، وشمال كردفان، والعاصمة الخرطوم، والولاية الشمالية، وفق تقرير لموقع «بي بي سي».
وفي عام 2008، اختارت البعثة المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، المعروفة باسم «يوناميد»، الفاشر مقراً رئيسياً لها، ما عزّز مكانتها وأسهم في نموّها العمراني وتطوير بنيتها التحتية.
تقسيم جغرافي فعلي
من شأن السيطرة الكاملة على الفاشر، من جانب الدعم السريع، أن تُكرّس تقسيماً جغرافياً فعلياً للبلاد بين الفصائل العسكرية المتناحرة، وفق تقرير لوكالة «رويترز».
وفي حال صحّ سقوط الفاشر، سيشكّل ذلك انتصاراً سياسياً مهماً للدعم السريع، وقد يُعجّل بتقسيم البلاد بين شرق يسيطر عليه الجيش وغرب تحت سيطرة الدعم السريع، وسيمكّن القوة شبه العسكرية من تعزيز سيطرتها على إقليم دارفور مترامي الأطراف، الذي اتخذته قاعدة لحكومة موازية شكّلتها في صيف هذا العام، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية.
وقال مسعد بولس، كبير مستشاري البيت الأبيض للشؤون العربية والإفريقية: «إذا كانت هناك سيطرة كاملة على منطقة دارفور للدعم السريع، فستكون لذلك تداعيات نوعاً ما خطرة ومقلقة للمستقبل بما يتعلّق بالتقسيم».
وقارن بولس هذا السيناريو بليبيا، حيث أدّى تنافس حكومتين مرتبطتين بفصائل عسكرية متمركزة في الشرق والغرب إلى انقسام جغرافي فعلي.
ويُثير تقدم ميليشيا الدعم السريع مخاوف أيضاً من أعمال انتقامية محتملة بحق نحو 250 ألف شخص لا يزالون في الفاشر، وسط تحذيرات من تصاعد القتال في مناطق أخرى من البلاد.
وقال شهود ومصادر إنسانية وعسكرية لـ«رويترز» إن مقاتلي الدعم السريع يحتجزون مدنيين فارين في بلدات وقرى مجاورة، منذ إعلان الميليشيا سيطرتها على مقر الجيش في الفاشر.
وقال محللون إن قوات الدعم السريع قد تستغل هذا الزخم لمحاولة استعادة السيطرة على مناطق أخرى في السودان.
وقال آلان بوزويل، من مجموعة الأزمات الدولية: «لم نلحظ أي مؤشر على أن قيادة قوات الدعم السريع تكتفي بغرب السودان فقط. وطالما أنهم يتلقّون إمدادات كافية لمواصلة المجهود الحربي، فإنهم يبدون وكأنهم مستمرون في تصعيد هذه الحرب».