ولعلو: الجائحة بينت هشاشة المجتمع المعولم وأكدت الحاجة إلى التضامن - تيلي ماروك

ولعلو - الجائحة - المجتمع المعولم - التضامن ولعلو: الجائحة بينت هشاشة المجتمع المعولم وأكدت الحاجة إلى التضامن

ولعلو: الجائحة بينت هشاشة المجتمع المعولم وأكدت الحاجة إلى التضامن
  • 64x64
    تيلي ماروك
    نشرت في : 16/05/2020

قامت كبريات البنوك المركزية (الفيديرالي الأمريكي والبنوك المركزية لأوروبا والصين واليابان وبريطانيا العظمى) بتخفيض معدلاتها المديرية إلى حدود الصفر وبادرت بمباشرة تدخلات غير كلاسيكية عن طريق شراء سندات عمومية وخصوصية.

هكذا أقر البنك المركزي الأوروبي برنامجا استعجاليا في حدود ألف مليار أورو لشراء مكثف لديون الدول والمقاولات داخل منطقة الأورو بهدف التخفيف على البنوك وحثها على توزيع المزيد من القروض للعائلات والمقاولات دعما للإنتاج والتشغيل.


هكذا انتصر منطق «مهما كان الثمن» الذي ردده الرئيس الفرنسي ماكرون وهي عبارة يرجع مصدرها إلى المدير العام الايطالي للبنك المركزي الأوروبي دراكي الذي قال بها سنة 2010.

واتفقت دول الاتحاد الأوروبي على إقرار برنامج انطلاقة بقيمة 540 مليار أورو عن طريق منحها ضمانات للبنك الأوروبي للاستثمار ليُقرضَ بدوره المقاولات في حدود 200 مليار أورو وإعطائها الضوء الأخضر للجنة الأوروبية لكي ترفع 100 مليار أورو من داخل الأسواق المالية وتُقْرِضها للأقطار التي تحتاج لذلك. ورغم تردد حكومتي ألمانيا وهولاندا المتشبثتين بالضوابط الأرثدوكسية، فإن الأقطار الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتقدم نحو استعمال «الآلية الأوروبية للتثبيت» التي أُحدثت سنة 2012 باعتمادات تصل إلى 450 مليار أورو وهي الآلية التي تعتبرها إيطاليا وإسبانيا غير كافية لمواجهة التحديات الراهنة. وهذا ما جعلها تطالب بإحداث آلية أوروبية للتضامن الاستثنائي تقضي بجمع كل الديون العمومية وإقرار قرض مشترك وموحد سمي ب(سندات كورونا) حيث يتحقق التضامن بين البلدان المنيعة ( ألمانيا، هولاندا ) والبلدان التي تعرف نوعا من الهشاشة (إسبانيا، إيطاليا، ولحدّ ما فرنسا).

على المستوى الداخلي قررت الحكومة الألمانية إخراج مدفعية بازوكا في شكل خط ائتماني في حدود 550 مليار أورو خدمة للمقاولات المحتاجة من أجل إنقاذها من الإفلاس.

في الولايات المتحدة أقرت السلطات العمومية برنامج انطلاق استثنائي في حدود 2000 مليار دولار (أضيف لها 750 مليار دولار)، حيث خصصت إعانات مباشرة في شكل توزيع شيكات على العائلات المحتاجة (1200 دولار للفرد و2400 للزوج و500 دولار لكل طفل) من أجل إعادة الاستهلاك وعبره آلية الانتاج. كما خصص هذا البرنامج 700 مليار دولار لمد المساعدة للمقاولات الموجودة في وضعية حرجة و100 مليار دولار للمستشفيات. يقدم الرئيس ترامب الليبرالي من أجل تمويل هذا البرنامج على خلق العملة، أو ما كان يسميه منتقدا الاقتصادي ميلتون فريدمن «عملة الطائرة المروحية».

في اجتماعات مجموعة السبع وبعدها مجموعة العشرين، اتفقت الدول الأعضاء على ضخ 7000 مليار دولار للحدّ من مخلفات الجائحة صحيا ودعم الاقتصاديات بالعالم. كما أوصت بتعليق خدمات الدين خلال سنة لصالح 76 قطر الأكثر هشاشة.

من الواضح أن هذه الأزمة لها أولاً وقبل كل شيء بُعد إنساني بالنظر لمصدرها الصحي. لذا كان من نتائجها إقفال الحدود الوطنية حتى داخل المجموعات الإقليمية (الاتحاد الأوروبي) وتوقيف الأنشطة السياحية ومعها النقل الجوي وكل الخدمات المرتبطة به. كما تقرر إلغاء أو تأخير كل التظاهرات الرياضية والثقافية والفنية (الألعاب الاولمبية بطوكيو، مهرجان كان للسينما).

ضمن هذه الأجواء المشحونة برزت نقطة تفاؤل مضيئة، حيث أفرزت أزمة كورونا بعداً معولماً على مستوى البحث العلمي والطبي من خلال العمل الدؤوب الذي يستهدف اختراع الأدوية واللقاحات المضادة للوباء، والترابط الإيجابي الذي بعثه هذا العمل بين مختلف مراكز البحث والمختبرات. هكذا تعبأ البحث العلمي عالميا عبر تبادل المعلومات لإيجاد الأجوبة الضرورية لمواجهة هذا المرض.

دروس يجب استخلاصها

بينت جائحة الفيروس التاجي مدى هشاشة المجتمع المعولم كما فرضت على الجميع إجبارية العمل الجماعي من أجل التغلب على الإكراهات والعواقب التي أفرزتها.

لقد أدى تفشي هذا الوباء إلى بروز حاجة الإنسانية إلى مزيد من التضامن وتوحيد الصفوف: تضامن بين الدول والأمم، وتضامن داخل هذه الأخيرة بين الطبقات والأجيال.

كما اتضح بجلاء مدى محدودية المغالاة في التوجهات والمقاربات الليبرالية الفردانية. وتأكد كذلك أن ضوابط السوق لا يمكن أن تدبر العالم وحدها وأن الدولة الحامية لها دور استراتيجي للحد من الانحرافات والانزلاقات التي تعددت في مجال تدهور الطبيعة ( البعد البيئي) وتفاقم اللاتكافؤ (البعدالاجتماعي) والآن في مواجهة الأوبئة والجائحات (البعد الصحي). ذلك أن هذه الأبعاد الثلاثة ترتبط بشكل مباشر بمستقبل الإنسانية في المعمور. فكما قال الاقتصادي الفرنسي كسافييه راكوُ «إن كُنْه الدولة هو حماية حياة الأفراد» كما هو في الحرب.

لا شك أن الاعتراف بالهشاشة المشتركة سيدعونا إلى مراجعة منظورنا حول منظومات التدبير القائمة حاليا. وفي ذلك كثير من الأمل مستقبلا، مما يتجلى في النقاشات الراهنة حول وباء الفيروس التاجي. من المفيد تجويد توظيف الكوارث كما وصل لذلك المفكر الفرنسي رجيس دوبري في كتابه «حول الاستعمال الجيد للكوارث» التي يمكن أن تكون مفيدة لأنها حسب هذا المفكر المتميز «تنبهنا وتعلمنا».

سيكون علينا كذلك نحن الاقتصاديين أن نستوعب محدودية الأنماط التنموية السائدة، مما يفرض ابتكار مفاهيم جديدة ترنو دائما للتقدم لكن على أساس أن يستند على مزيد من التضامن. إن هشاشة العولمة وتعقيداتها وتوالي انحرافاتها تقضي بإغناء المفاهيم التي يستند عليها علم الاقتصاد ليصبح فعلا سياسيا ويتخلى عن عجرفته ويجعل الإنسان والمدى البعيد محوره ومركزيته. أن الوعي بهشاشة الإنسان يدفع بأن نقبل بمزايا التقاسم في العلاقات بين الأمم. والتقاسم يعني حماية الضعفاء خاصة في القارة الافريقية.

إن إبراز الترابط (أو التبعية المتبادلة) بين البلدان يفرض التخلي عن منطق الأنانية (أمريكا أولاً) والشعبوية والقومية المتطرفة، كما يقضي بالعمل من أجل الوصول إلى مزيد من التنسيق الإقليمي والدولي على مختلف المستويات: مجموعة الاثنين التي تضم الولايات المتحدة والصين القوتان الاقتصاديتان الأوليان، ثم مجموعة السبع التي تجمع البلدان الأكثر تطورا وضمنها الدول الأوروبية الأساسية، وهناك كذلك مجموعة الخمس، العضوة الدائمة في مجلس الأمن والتي لم يسبق لها أن التأمت منذ تأسيس الأمم المتحدة، وأخيرا مجموعة العشرين التي توجد ضمنها الأقطار الصاعدة الكبرى. من المهم في إطار العولمة المتقدمة أن تأخذ كل هذه المكونات بعين الاعتبار مخلفات هذه الأزمة الاقتصادية الجديدة على البلدان النامية والفقيرة. ذلك أن انهيار النشاط الاقتصادي عالميا يمثل خطرا كبيرا على الساكنة الأكثر فقرا والمقدرة ب 500 مليون نسمة. وهذا ما جعل العديد من الأصوات ترتفع لتطالب بإلغاء الديون التي تثقل كاهل الأقطار الإفريقية. كثير من المؤشرات تدل على أن القارة الإفريقية لن تمس بوباء كفيد 19 على غرار القارات الأخرى، لكنها ستتحمل عواقب الأزمة الاقتصادية بسبب تهاوي الطلب العالمي على المحروقات والمواد الأولية وانهيار مداخيل تحويلات المهاجرين والسياحة.

إن الأمل هو أن تؤدي كل هذه المشاورات إلى تجديد التدبير العالمي سياسيا (الأمم المتحدة) واقتصاديا (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الخارجية) وفي استهداف تقوية التنسيق ومزيد من التقاسم لحماية الكيانات الضعيفة. لكن لا يمكن أن تغير كل هذه المؤسسات منطقها إلا إذا حدث تغيير فوقي للمنطق السائد في تدبير كبريات القوى الاقتصادية والجيوسياسية والتي تؤثر بقوة في سير هذه المؤسسات.

تلك هي الشروط التي ستسمح للأزمة أن تصل إلى تحويل الحكامة العالمية التي يجب أن تدمج بجانب المجالات السياسية والاقتصادية والمالية هواجس جديدة تتصل بالبعد البيئي وقضية التكافؤ الاجتماعي وكذا الصحة التي فرضت نفسها اليوم كمكون للأمن الجماعي عالميا.

إن اعتبار هذه المستلزمات الثلاثة (الصحة، البيئة والتكافؤ) يقضي بإقرار مساعدة ضخمة على المستوى العالمي من أجل تحقيق انطلاقة نوعية جديدة للاقتصاد العالمي على غرار ما حدث عندما وُضع برنامج مارشال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والذي ساعد على إعادة بناء البلدان الأوروبية.

لا شك أن الكيانات الأكثر تماسكا ومناعة ستتمكن من تقوية إشعاعها بعد 2020، وسيكون ( البيك داطا) Big Data والرقميات والذكاء الاصطناعي مصدر قوة الأقطار التي ستتمكن من إنتاجها والتحكم فيها. هكذا ستسعى البلدان الأكثر فعالية في صناعة عالم الغد كما تمكنت القوى الكبرى بالأمس من وضع بصماتها على مسار تاريخ العالم بعد 1945.هذه الأقطار هي التي ستشيد مجتمعات ما بعد الحجر الصحي من خلال الاستثمارات في التجهيزات الأساسية وفي الإعلاميات عالية التدفق (haut débit) وفي التكوين عن بعد. ضمن هذا الإطار يتنبأ الاقتصادي دانييل كوهن بانبثاق رأسمالية جديدة... رأسمالية الرقميات.

إن أزمة 2008 كانت قد أنتجت عبر عواقبها الوخيمة مزيدا من الأنانية والشعبوية وأفرزت «الترامبية» اسم الرئيس الأمريكي الحالي، وهي تدفع المتشائمين أن يقولوا بأن عالم ما بعد 2020 سيكون « أكثر إنغلاقا وفقرا وقبحا» وسيرسخ المد الشعبوي والممارسات الديكتاتورية.

هناك احتمال بالفعل بأن تتغير كثير من الأشياء بعد 2020 دون أن يتغير أي شيء في العمق. لكن إذا أخدنا بعين الاعتبار «تعقيدات» الأحوال السائدة التي أصبحت مصدر «اللا يقين الراديكالي» (تيري دومونتريال) سيكون على العالم أن يقبل بالعيش أكثر من الماضي مع «الغير منتظر» (إدكار موران). ويعتقد المتفائلون أن الحلول ستأتي من الأقطار التي يعترف لها اليوم بفعاليتها التدبيرية للأزمة الصحية مثل الصين وكوريا الجنوبية والفييتنام في آسيا، وألمانيا وكذا أقطار أوروبا الشمالية. وهي كلها بلدان أصبحت ذات مرجعية في تدبير هذه الأزمة الصحية الشيء الذي يجعلها مهيأة للتأثير في المسار العالمي نحو مزيد من التعددية القطبية. في آخر الأمر سيبقى التقدم مستقبلا نتاج مساكنة بين المثالية والواقعية. ومهما كان الأمر فإن العالم الذي سينبثق بعد زوال أزمة 2020 سيكون مختلفا وفي ذات الوقت ستبقى عدة عناصر الاستمرار حاضرة.

إن الهشاشة التي اتضحت بفعل كوفيد 19 تسائلنا نحن المغاربة والمغاربيين وجنوب المتوسطيين والأفارقة. سنكون مطالبين بإعلاء وعينا بقيمة الجوار كخير مشترك مما يفرض فتح الحدود المنغلقة وخلق أسس المصالحة والتقارب من أجل تحسين موقعنا التفاوضي في تدبير عولمة ما بعد 2020 وأفكر هنا في المشروع المغاربي الغائب منذ عقود وكيف يمكن أن ننتهز فرصة المنعرج الذي يعيشه العالم لندفع به اعتبارا لملحاحيته.

ما بعد 2020 سيؤدي بالضرورة إلى توازنات جديدة بين مختلف الأقطاب الاقتصادية. وهو ما بدأ يتجلى قبل ذلك بعد أزمة 2008 حيث تأكد صعود الاقتصاديات الأسيوية وعلى رأسها الصين على حساب أوروبا والولايات المتحدة. هكذا سيترسخ مسار العالم نحو المزيد من القطبية المتعددة. إنها فرصة للمنطقة العربية لتخرج من المنغلق الذي توجد فيه.

هل لنا أن نحلم ؟ أن انبثاق القطبية المتعددة قد يبعث فرصا جديدة للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. هل من حقنا أن نحلم بإمكانية البلدان العربية النفطية بأن تستفيد هذه المرة من الصدمة المضادة الجديدة لتغيير نمطها الريعي الذي كان له منذ أربعين سنة تأثيرات سلبية على مجتمعات المنطقة سياسيا واقتصاديا وفكريا.


إقرأ أيضا