علاقات منسية بين ملوك بريطانيا والمغرب - تيلي ماروك

بريطانيا علاقات منسية بين ملوك بريطانيا والمغرب

علاقات منسية بين ملوك بريطانيا والمغرب
  • 64x64
    Télé Maroc
    نشرت في : 19/09/2022


وحسب مصادر من أرشيف الوثائق الرسمية بين بريطانيا والمغرب، والتي ما زالت مكتبة لندن تحتفظ بها وتحمل توقيع المولى المنصور الذهبي، فإن أزمة كادت أن تودي بصداقة الملكة إليزابيث والمنصور، بسبب نوع من الأخشاب المستعمل في صناعة السفن. فقد كتب المنصور إلى الملكة إليزابيث أنه يحتاج كمية كبيرة من الأخشاب الشهيرة لصناعة أسطول من السفن البحرية لصالح المغرب، لكن الملكة إليزابيث كانت في الوقت نفسه تشرف على مشروع صناعة سفن بريطانية، ولم يكن ممكنا إرسال الكمية المطلوبة إلى المغرب، مخافة أن تكون هناك عرقلة في المشروع البريطاني.

هذا موضوع منفصل يمكن الرجوع إليه لتوثيق الأزمات بين البلدين، خصوصا أن أزمة مشابهة نشأت بين قصر فاس وقصر لندن، سببها تأخر أشغال إصلاح عربة ملكية في عهد المولى محمد الثالث.

لذلك، فإن عقود التقارب بين البلدين لم تمحها الأزمات العابرة التي كانت تلقي بظلالها بين الفينة والأخرى، ويتم تجاوزها إما بتبادل الزيارات، أو إعادة الدفء إلى العلاقات بحضور مراسيم التشييع أو التنصيب.

في عهد الملكة إليزابيث الأولى، تأسست أولى شراكة على الإطلاق بين بريطانيا والمغرب. وقد سبق في «الأخبار» أن أفردنا ملفا خاصا حول الموضوع، وسياقه وتداعياته أيضا. إذ إن دولا في الشرق لم تتقبل كيف أن دولة عظمى مثل بريطانيا تعامل المغرب ندا للند، وتؤسس لعلاقات تجارية معه، في الوقت ذاته الذي تنظر فيه إلى دول أخرى نظرة استعمارية.

سبق أن نشرنا في «الأخبار»، في ملف سابق، بعض المعطيات التاريخية التي ذكرها المؤرخ البريطاني «ب.ج. روجرز»، حول بعض رجال البلاط البريطانيين الذين كانوا يستثمرون في المغرب سنة 1585.

كانت بعض الخطابات الرسمية المرسلة من المغرب إلى بريطانيا، أو العكس، تكشف إلى أي حد كان الاهتمام بالتجارة كبيرا. فبعض المراسلات كانت مخصصة لتوضيح مجريات العمليات التجارية بين مغاربة وبريطانيا، أو بين بريطانيين والدولة المغربية. ولم يكن هناك أي ذكر لشركات تشرف أو تهيمن على نوع من التجارة.

كان من الممكن أن تنفجر أزمة كبيرة بين المغرب وبريطانيا، بسبب نوع من الأخشاب المستعمل في صناعة السفن. فقد كتب المنصور إلى الملكة إليزابيث أنه يحتاج كمية كبيرة من الأخشاب الشهيرة لصناعة أسطول من السفن البحرية لصالح المغرب، لكن الملكة إليزابيث كانت في الوقت نفسه تشرف على مشروع صناعة سفن بريطانية، ولم يكن ممكنا إرسال الكمية المطلوبة إلى المغرب، مخافة أن تكون هناك عرقلة في المشروع البريطاني.

لكن المصالح التجارية التي كانت تجمع البلدين، جعلت إمكانية الاعتذار عن توفير شحنة الخشب مستحيلة، مخافة أن يقطع المغرب علاقاته ببريطانيا، وهو ما جعل الملكة إليزابيث تكتب على الفور لتوفير الكمية التي يطلبها المغرب، من غابات منطقة «هامبشير» ببريطانيا، وشحنها فورا إلى المغرب.

أما تأسيس شركة «البربر» فقد جاء بناء على توافقات مغربية بريطانية، بعد أن نجح وفد بريطاني غير رسمي في حيازة صفقات تجارية مهمة مع المغرب، وهو ما جعل الملكة إليزابيث تبعث إلى المغرب سنة 1585، رسالة مفادها أنها تقترح على أحمد المنصور إقامة شركة باسم «شركة بلاد البربر»، وهي شركة بريطانية رسمية أرادت لها الملكة إليزابيث أن تتعاقد مع المغرب لمدة 12 سنة، تكون خلالها الشركة هي المحتكر الوحيد لجميع الأنشطة التجارية مع المغرب. وكان الممثل الرسمي للشركة في المغرب هو البريطاني «هنري روبرتس»، وقد جاء إلى المغرب في السنة ذاتها، قادما من لندن بتوصية خاصة من الملكة إليزابيث لينقل أوراق الشركة وقرار اعتماده إلى قصر مراكش، حيث كان يقيم أحمد المنصور.

كان الغرض بالأساس من إنشاء الشركة هو قطع الطريق أمام بعض التجار الأجانب الذين كانوا يستغلون انفتاح بلدهم بريطانيا على المغرب، ويتاجرون في السلاح وبعض السلع التي كان وجودها بالمغرب مزعجا، مثل الأقمشة الرخيصة وبعض السلع التي يأتي بها التجار الإنجليز من آسيا، ولم تكن تلقى أي رواج في المغرب.

وهكذا كانت الشركة بوابة احتكارية للتجارة مع المغرب، وهو الأمر الذي قوى حظوظ البريطانيين، لكنه طوق المغرب اقتصاديا، ولم يعد مسموحا للدولة المغربية ولا التجار المغاربة، بتوسيع نشاطهم، وإنما كانوا ملزمين باحترام العقد الاحتكاري.

لكن المغرب لم يفطن سريعا إلى الأمر، واعتبر أن العقد الرسمي سيغلق باب المشاكل مع التجار الأجانب الذين كانوا يتهربون من أداء الضرائب للدولة المغربية. حتى أن المنصور كتب في إحدى المراسلات الرسمية التي يعود تاريخها إلى سنة 1588، أنه يتعهد بتوفير الحماية للإنجليز الوافدين على المغرب. وبقيت الأمور منسجمة إلى درجة أن «هنري روبرتس»، ممثل الشركة، عندما قرر مغادرة المغرب، لحقه مبعوث مغربي خاص اسمه مرزوق الرايس ليقترح عليه العودة. وقد نقل المؤرخ البريطاني روجرز رأي السيد روبرتس في الموضوع: «استقبلنا كبار تجار شركة «بلاد البربر» خارج المدينة، والذين تراوح عددهم بين أربعين وخمسين، وقد امتطى كل منهم جوادا، وخصصت لي أنا والسفير مركبة كبيرة وتقدم بنا الموكب لندخل المدينة، يوم الأحد 12 يناير 1589». بطبيعة الحال فإنه كان يقصد التجار الأجانب، وليس المغاربة، لأن الشركة أسست أساسا لخدمة كبار التجار الإنجليز ورجال الأعمال الذين كانوا على علاقة وطيدة جدا بالقصر في لندن.

في الأخير، ساءت الأمور المادية في الشركة، لأن ممثلها عاد إلى بريطانيا، إذ إنها لم تكن ترى داعيا لبقائه في المغرب ما دامت الأمور كانت تجري بسلاسة كبيرة. في السنوات الأخيرة التي سبقت نهاية العقد الاحتكاري، تضررت عائدات الشركة، لأن التجار الإنجليز كانوا يتخوفون من إمكانية استحالة إعادة إبرام العقد الاحتكاري من جديد مع المغرب، وهكذا انتهت بعد أن راكم أصحابها ثروات كبيرة جدا، حتى أنهم كانوا يتحكمون في أسعار السكر في بريطانيا، لأنهم كانوا الوحيدين الذين يملكون حق جلبه من المغرب، وهو ما جعل «ثورة» صغيرة تقوم داخل أوساط أثرياء بريطانيا مسنودين بدعم حكومي، أنهى وجود الشركة الاحتكارية، ليكون بمقدور جميع التجار الإنجليز الاستثمار في المغرب، والتعامل معه تجاريا، ويسدل الستار على قصة الشركة.

 

مغاربة في جنائز ملوك بريطانيا وأفراحهم

سوف نتطرق في هذا الملف إلى قصة السفير المغربي الحاج الزبيدي، الذي حضر حفلا في قلب القصر الملكي البريطاني بلندن، وتعرف هناك على شخصيات من الشرق والغرب، وكان يمثل المغرب تمثيلا شرفيا يحظى برعاية خاصة من الملكة فيكتوريا التي توفيت لاحقا سنة 1901، بسبب نزيف في المخ. وأرسل المغرب وقتها تعزية رسمية لنعيها، ثم وفدا رسميا لتهنئة ابنها إدوارد السابع بمناسبة جلوسه على العرش.

أما علاقة فيكتوريا بالمغرب، فتعود إلى فترة وصولها إلى الحكم في يونيو 1837، حيث كانت شاهدة على فترة حكم المولى محمد الرابع، ثم بعده المولى الحسن الأول، حيث كانت هناك مراسلات كثيرة بين البلدين.

لكن قبلها، فقد كانت بريطانيا تعرف المغرب بناء على تداعيات فترة حكم المولى إسماعيل، الذي توفي سنة 1727، أي قرنا قبل مجيء فيكتوريا إلى السلطة، والذي كان يحكم المغرب أيام الملك جورج الأول.

حيث تبادل البلدان السفراء، وكانت الأجواء بينهما مشحونة. لكن الأمر لم يمنع من أن تنمو صداقة متينة بين البلدين لاحقا، في عز حكم المولى إسماعيل. إذ كان سفراء مغاربة أمثال حدو العطار، والسفير ابن عائشة، الذي يعتبره المؤرخون أحد أقدم السفراء بالمفهوم العصري للوظيفة الدبلوماسية، قد لعبا معا دورا مهما في إيصال رسائل المولى إسماعيل إلى البريطانيين، وحضرا في مناسبات متفرقة لأحداث مفصلية في تاريخ مملكة بريطانيا وهما يمثلان المغرب.

كان المولى إسماعيل يعرف الملكة آن، التي سبقت وصول الملك جورج الأول إلى السلطة سنة 1714، وهي السنة التي كان خلالها المولى إسماعيل قد بدأ يعاني من المرض. ولعلها من المفارقات العجيبة، أن يتوفى السلطان المولى إسماعيل في السنة نفسها التي توفي فيها الملك جورج الأول. حيث أكد المؤرخون أن القصر الملكي في فاس تلقى التعازي في وفاة المولى إسماعيل في مارس 1727، ثم توفي بعده إدوارد الأول في يونيو، أي بعد ثلاثة أشهر فقط.

حين رفض سفير محمد الرابع مصافحة الملكة فيكتوريا في ذكرى تنصيبها

لا توجد وثائق تؤكد أن وفدا مغربيا رسميا قد حضر جنازة الملكة فيكتوريا، التي توفيت في الأيام الأولى من دخول سنة 1901. لكن بالمقابل، توجد وثائق كثيرة تؤكد وجود زيارات رسمية مغربية إلى بريطانيا في عهدها، وتبادلا للزيارات بين سفراء البلدين في كثير من المناسبات، طيلة فترة حكمها منذ سنة 1837، أي منذ عهد المولى محمد الرابع. 

عند وصول ابنه المولى الحسن الأول إلى العرش سنة 1873، أرسلت الملكة فيكتوريا سفيرها إلى القصر الملكي بفاس، لكي يقدم التهاني للمولى الحسن الأول. وفعلا وقع تقارب بين البلدين، رغم أن المولى الحسن الأول كان داعما للجهاد البحري، وفضل في سنوات حكمه الأولى أن يقطع الاتصال مع إسبانيا والبرتغال، بسبب مطامع البلدين لاحتلال السواحل الأطلسية في الجديدة وآسفي. 

لكن سياسة الملكة فيكتوريا الودية مع المغرب، جعلت المولى الحسن الأول يطلب مساعدتها، حيث اقترح عليه بريطانيون في فاس أن يطلب من بريطانيا إرسال مساعدات لمواجهة آفة الجراد، وكانت بريطانيا فعلا شحنت كمية مهمة من المواد المبيدة، التي استعملت بشكل واسع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتجنيب المغرب سنة مجاعة إضافية، بسبب توالي الجفاف والأوبئة. 

تطورت الصداقة بين المولى الحسن الأول والملكة فيكتوريا إلى درجة تبادل الهدايا، حيث فضل المولى الحسن الأول أن يفتح علاقات دبلوماسية مع البريطانيين، على أن يستقبل وفودا فرنسية وإيطالية. وكان ذلك مكسبا كبيرا لبريطانيا في ذلك التاريخ. 

كان تنصيب الملكة فيكتوريا على عرش المملكة المتحدة يوم 20 يونيو 1873، حدثا مهما جدا في المغرب. وفي احتفال بذكرى عيد جلوسها على العرش، سنة 1876، حضر وفد رسمي مغربي لذلك الاحتفال، وحرصت الملكة شخصيا أن يتناول معها الوفد طعام العشاء. وهو ما وثقه كاتب السفير المغربي الحاج الزبيدي، وهو رجل دولة كان يثق به المولى محمد الرابع كثيرا، فأرسله سنة 1876 ليلتقي الملكة فيكتوريا، وقد كتب الإنجليز أنفسهم في جرائد كانت تصدر في لندن وقتها، أن رجلا مسلما جاء للقاء الملكة فيكتوريا ولم يسلم عليها.

إذ أثار عدم سلامه على الملكة ضجة كبيرة، رغم أن الأخيرة لم تبد أي تضايق من الأمر، خصوصا أن المترجم شرح لها أن الزبيدي كان من العلماء، وكان ملتزما بتعاليم الدين الإسلامي ومقتنعا بأن مصافحة النساء حرام، وتفهمت الملكة الأمر، رغم أن صحافة بلادها لم تهضمه بسهولة. 

والطريف أن الوفد المغربي كان قد اعتذر وسط الحفل وانسحب لأداء صلاة العشاء، رغم أن الملكة فيكتوريا أرسلت للسفير المغربي من يخبره بضرورة حضوره حفل العشاء، وكان على الضيوف أن ينتظروا عودته رفقة مرافقيه، الذين كان أغلبهم من الفقهاء وموظفي القصر الملكي بفاس. 

لم يكن حضور الوفد المغربي لحفل الملكة فيكتوريا ليخلو من طرائف إضافية، فقد كانت الجولة التي نظمتها الملكة فيكتوريا للوفد المغربي مدروسة بعناية، لجعل السفير ومرافقيه ينبهرون بمظاهر الحياة في لندن والمدن الأخرى التي زاروها. بدءا بالباخرة التي وضعت رهن إشارة الوفد، وصولا إلى زيارة مصنع الأسلحة ومطابع الصحف وحتى مركز البريد، حيث تعرف السفير المغربي لأول مرة في حياته على جهاز التلغراف. كما ركب الوفد القطار من لندن إلى مانشستر، وكان ذلك حدثا مهما جدا في حياة أعضاء الوفد المغربي الذين عادوا من أوروبا منبهرين، ولعبوا دورا كبيرا في تلطيف الأجواء بين المغرب وبريطانيا، في عهد المولى محمد الرابع. 

كانت تلك الصداقة بين الملكة فيكتوريا والمغرب، سببا في إصرار المولى عبد العزيز على إرسال وفد رسمي لتقديم التعازي في وفاتها، وتنصيب ابنها إدوارد السابع ملكا للمملكة المتحدة سنة 1901، رغم المشاكل الكثيرة التي كان يعيشها المغرب في ذلك الوقت. 

ثورة وزراء المغرب ضد «المنبهي» بعد حضوره تنصيب إدوارد السابع

في يوم 22 يناير 1901، جلس الملك إدوارد السابع على عرش المملكة المتحدة. عندما وصل الخبر إلى القصر الملكي في فاس، أيام المولى عبد العزيز، تقرر فورا إرسال بعثة مغربية رسمية لتقديم التهاني إلى الملك الجديد للمملكة المتحدة. 

كان المهدي المنبهي، وزير الحرب، أكثر الوزراء نفوذا في المغرب وأقربهم إلى السلطان وأكثرهم تأثيرا في القرار. اختير لمرافقته الأسكتلندي القائد ماكلين، الذي كان مستقرا في المغرب منذ أيام المولى الحسن الأول، ويتولى مهمة تدريب الجيش النظامي المغربي. كانت مهمته في الوفد أن يُترجم للمهدي المنبهي، ويتحدث باسم الوفد المغربي الرسمي أمام الملك إدوارد السابع. 

عندما غادر الوزير المهدي المنبهي القصر الملكي بفاس، بدأ أغلب الوزراء، وعلى رأسهم الوزير التازي، يتآمرون عليه للإطاحة به ورفع طلب رسمي إلى السلطان لعزله من الوزارة. حدث هذا حتى قبل أن يصل المنبهي إلى ميناء طنجة، حيث كانت باخرة أجنبية ترسو هناك في انتظار وصول الوفد المغربي لانطلاق الرحلة صوب بريطانيا. 

كان الهدف من زيارة المهدي المنبهي، تقديم التهاني إلى ملك بريطانيا الجديد وتقديم العزاء في وفاة والدته الملكة فيكتوريا، بالإضافة إلى تداول اتفاقيات بين المغرب وبريطانيا بخصوص السلاح، وسد الطريق أمام التغلغل الفرنسي في الدار البيضاء. بالإضافة إلى تقديم مساعدات إلى المغرب، بسبب توالي سنوات الجفاف وانتشار الأوبئة. إذ سبق للمغرب في عهد الملكة فيكتوريا أن استفاد من مساعدة بريطانيا لمكافحة الجراد، وكان المهدي المنبهي ينوي طلب بريطانيا مجددا لتقديم المساعدة إلى المغرب. 

قبل أن يعود الوفد المغربي الرسمي إلى المغرب، وصلت أخبار إلى القائد ماكلين بما كان ينوي الوزراء المغاربة القيام به للإطاحة بالمهدي المنبهي. إذ إن رسالة وصلته بحرا من فاس، ذكرت تفاصيل رسالة رفعها الوزراء إلى السلطان المولى عبد العزيز، يقدمون له فيها شكوى رسمية بالوزير المهدي المنبهي، ويتهمونه علانية باختلاس أموال المخزن ومراكمة ثروة فاحشة، وخيانة الأمانة، والتفاوض مع الإنجليز باسمه الشخصي للحصول على تعويضات مالية. 

كانت تلك التهم خطيرة للغاية، ونصح ماكلين المنبهي ألا يعود إلى المغرب، خصوصا وأن برنامج الرحلة كان يتضمن محطات أوروبية، وإجراء مقابلات مع وزيري خارجية فرنسا وألمانيا، قبل العودة إلى المغرب. لكن المهدي المنبهي كان له رأي آخر. 

فقد كانت تربيته في دار المخزن، والدهاء الذي ورثه عن مُعلمه الصدر الأعظم أيام المولى الحسن الأول، الوزير باحماد، قد ألهماه لكي يهتدي إلى حل كان يحتاج إلى الكثير من الشجاعة وروح المغامرة. 

عندما وصل المهدي المنبهي على متن باخرة إلى مدينة الجديدة، نزل ليلا قبل أن يراه أي موظف في دار المخزن، وامتطى خيلا وقطع المسافة من مدينة الجديدة إلى فاس دون استراحة، لكي يصل إلى القصر الملكي بفاس، قبل أن يصل خبر وصوله إلى المغرب من أوروبا. 

ما إن وصل المهدي المنبهي إلى قصر فاس، حتى لجأ إلى طريقته القديمة في دخول القصر الملكي، فقد كان يتوقع أن تكون هناك تعليمات إما بسجنه، أو منعه على الأقل من لقاء السلطان، لكنه لجأ إلى حيلة ذكية ومر عبر بوابات الحراس الذين كانوا تابعين له، ليدخل إلى قاعة السلطان ويرتمي أمام المولى عبد العزيز ويشرح له تفاصيل المؤامرة، التي حاكها ضده الوزراء خلال سفره. وكانت النتيجة أنه ربح فترة إضافية في الوزارة. 

الملكة إليزابيث لم تكن تعرف التهامي الكلاوي

عندما جلست الملكة إليزابيث على عرش المملكة المتحدة في الأسبوع الأول من فبراير 1952، كانت الصحافة الدولية تعرفها جيدا. إذ كانت صورها منذ الحرب العالمية الثانية، بصفتها ولية للعهد، تملأ صفحات كبريات الصحف الدولية. 

وعند احتفائها بالذكرى السنوية الأولى للجلوس على العرش، في احتفال عالمي حضره مشاهير من كل دول العالم، بينهم رؤساء وملوك ونجوم السينما، بالإضافة إلى العائلات المرموقة، كان الباشا التهامي الكلاوي، المعروف في بريطانيا بـ«باشا مراكش» ينوي بدوره الحضور خلال حفل التنصيب، الذي أقيم للملكة إليزابيث الثانية في سنة 1953. إذ كان هذا الحفل بمثابة أول احتفاء بها بعد جلوسها على العرش، على اعتبار أن التنصيب الأولي يكون محتشما، وتسيطر عليه مشاعر الحزن على فقدان والدها الملك، الذي توفي بعد صراع مع مرض عضال. كانت تلك التقاليد الملكية ضاربة في القدم، لذلك كان الحفل مستأثرا باهتمام كل الصحافة العالمية، بما فيها محطة «BBC» التي سبق لمراسليها في المغرب أن أذاعوا تقارير عن عطلة رئيس الوزراء تشرشل في مراكش، في ضيافة الباشا. 

لكن الحقيقة أن الباشا الكلاوي، باستثناء الصور التي نشرتها الصحافة الفرنسية والبريطانية له وهو يحضر حفلات وعروضا مسرحية مع مشاهير السينما الفرنسية، فإن البريطانيين لم يكونوا يعرفون عنه أي شيء. ورغم ذلك فقد تلقى دعوة لحضور الحفل الملكي، بوساطة من صديقه رئيس وزراء بريطانيا. 

لكن المثير أن المشرفين على تفاصيل الحفل ورعاية وصول المدعوين، وتسلم الهدايا التي يقدمونها إلى الأسرة الملكية بالمناسبة، رفضوا هدية الباشا الكلاوي ولم يتم إشعاره بالسبب، بل أعيدت إليه، لكي يجد نفسه مضطرا إلى الانسحاب الفوري، ساعات قبل انطلاق الحفل الفعلي بحضور الملكة. 

ورغم أن وثائق الأرشيف، سواء أرشيف الكلاوي نفسه أو أرشيف رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، تقول إن سبب رفض هدية الباشا هو تقاليد ملكية قديمة تفرض على الملكة إليزابيث عدم تلقي الهدايا إلا من الملوك مثلها، إلا أن ذلك العذر كان من اختلاق تشرشل، لرفع الحرج عن صديقه لا غير. 

إذ إن الملكة إليزابيث تلقت هدايا ثمينة من العوام وقبلتها، وتلقت في مناسبات أخرى هدايا من نجوم السينما واحتفظت بها، رغم أن قيمتها لا تُقدر أبدا بثمن. 

والراجح أن القائمين على ديوان الملكة إليزابيث وقتها ارتأوا ألا يستقبلوا الباشا الكلاوي في تلك السنة، التي تزامنت مع نفي فرنسا للسلطان محمد بن يوسف، حتى لا يتم تأويل الأمر في المغرب على أنه مساندة بريطانية للسلطان الجديد، أو اعتراف بسلطة رمزية للباشا الكلاوي. 

وهذا التفسير الأخير هو الراجح، بحكم أن بريطانيا كانت في طليعة الدول التي ربطت صداقات متينة مع المغرب، بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، عبر سفارتها في الرباط، حيث تم توقيع اتفاقيات مهمة بين البلدين. 

تجار منسيون لعبوا دور «مستشارين» بين المخزن وملوك بريطانيا

عند تأمل التاريخ الحافل بين المغرب وبريطانيا، منذ عهد الدولة السعدية، أي قبل ثمانية قرون من اليوم، فإنه من المحير فعلا تحديد أسباب التقدم في العلاقات بين المغرب وبريطانيا، في وقت كانت فيه المملكة المتحدة تتسع كل يوم، لكنها بالرغم من ذلك كله كانت تعامل المغرب دولة صديقة، وليس مشروع مستعمرة مستقبلية في شمال إفريقيا. 

لماذا كان المغرب يحظى بهذه المكانة الراقية، التي تؤرخ لها آلاف وثائق المراسلات المحلية عندنا والأجنبية أيضا؟

إذ إن المغرب كان البلد العربي والمسلم الوحيد الذي يحضر في احتفالات التنصيب أو التأبين، من خارج لائحة دول مستعمرات بريطانيا التابعة لها. 

السبب، حسب ما توثقه وثائق الأرشيف، وجود «سُعاة» كان لهم دور كبير في فتح قنوات التواصل بين المخزن المغربي، سيما أيام المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، وأيام المولى محمد الرابع ومع الحسن الأول الذي كانت وفاته سنة 1894 تعرف وجودا قويا للبريطانيين في المغرب، بموجب اتفاقيات وصداقة متينة بين البلدين. 

تم اعتماد رجال أعمال أجانب، كانوا يترددون على المغرب بحكم علاقاتهم التجارية مع تجار مدينة الصويرة، التي كانت تعتبر في سنة 1850 وما قبلها بقليل، معقلا لقوة الاقتصاد المغربي. رجال أعمال مثل البريطاني «ويليام كرايس» الذي قيل عنه إنه كان فألا حسنا على «المخزن»، بفضل العلاقات الوطيدة التي ربطها مع الدولة المغربية ممثلة في الصداقة المتينة التي ربطته بالوزير المغربي بركاش، الذي تولى بدوره تقديمه إلى القصر. ورغم أنه عاش معظم سنوات إقامته المغربية في مدينة الصويرة، إلا أنه استطاع ربط صداقات مع معقل القرار دون أن يبرح مقر القنصلية. المثير أن دولا أخرى حاولت الحصول على خدماته، وهكذا توصل بطلبات رسمية من الخارجية من بلجيكا والدانمارك.

المثير في الموضوع، حسب أبحاث دانييل شروتر: «..وهكذا نجد التاجر البريطاني، وليام كرايس، بصفته وكيلا قنصليا لبلجيكا والدانمارك يمنح الحماية لتسعة سماسرة. وبما أنه كان تاجرا بريطانيا، فقد جعل في خدمته سمسارين، سُجل اسم كل منهما في لوائح المحميين في القنصلية البريطانية بالصويرة. أما ابنه جون كرايس فقد سجل أنطونيو بوليلي وكيلا له، وكان بوليلي هذا من أقدم التجار الإيطاليين استقرار في المدينة، وشغل منصب نائب قنصلي لمجموعة من الدول هي إيطاليا والنرويج والسويد والبرتغال».

هذا بالإضافة إلى بريطانيين من أصول مغربية، كانوا أيام المولى الحسن الأول ينعمون بالحياة في بريطانيا ويشغلون مناصب حساسة، لعبوا دورا كبيرا في توطيد الصداقة بين المغرب وبريطانيا. وعلى رأس هؤلاء نجد المغربي موسى أفلالو، الذي نشط أيام المولى الحسن الأول، ولعب دورا كبيرا جدا في تقديم مشورات في صالح المغرب، إلى القصر الملكي في بريطانيا أيام الملكة فيكتوريا، التي كانت تعتبره من رعاياها المخلصين. إذ كان إلى جانب إتقانه اللغة الإنجليزية، ملما بتقاليد القصر الملكي المرعية، ولعب دورا كبيرا في تفعيل قرارات اتخذتها الملكة فيكتوريا لفتح صداقة مع المغرب، أيام المولى الحسن الأول، حيث جاء تجار ورجال أعمال بريطانيون إلى المغرب واستقبلهم الوزير باحماد، ومنحهم صلاحيات واسعة، ووفر لهم كل سبل الراحة لكي يقوموا بجولات استكشافية في المغرب، قرروا بموجبها القطاعات التجارية التي استثمروا فيها. ولولا موسى أفلالو، الذي وصفته بعض المراجع الأجنبية القديمة بالعميل، لما تمت تلك الصفقات نهائيا. 

أمثال هؤلاء إذن، هم الذين جعلوا المغرب حاضرا بقوة في القصر الملكي البريطاني لقرون متواصلة، حيث كانت دول كبرى حول العالم تعجز عن الفوز بشرف الضيافة في قلب القصر الملكي بلندن، في حين أن المغاربة، سفراء ومخزنيين، كانوا يجدون مقاعد وثيرة في انتظارهم كلما جاؤوا إلى لندن.


إقرأ أيضا