«عندما أخرجت صحيفة «الكارديان» العريقة مضامين دراسة الباحث «جان كورا»، كانت كمن يلقي حجرة في بركة جافة. الحقيقة التي غابت عن هؤلاء جميعا أن عائلة المهدي بن بركة ورفاقه لم يعودوا يشعرون بأي إغراء كلما تعلق الأمر بكشف وثائق من أرشيف دولة ما، عن علاقات المهدي بن بركة.
ما يبحث عنه هؤلاء، اليوم، هو مصير المهدي بن بركة وطريقة تصفيته ومكان جثمانه. والباقي تفاصيل.
مؤاخذات كثيرة على بحث الباحث في جامعة «براغ»، أولاها تناقض في التواريخ، وآخرها اتهام بغياب المنطق في الإغراءات التي يقال إن المهدي استقطب بها ليكون عميلا لـ«براغ»، خصوصا وأنه لم يكن في حاجة إلى مبلغ 250 جنيها فقط لكي يقدم معلومات عن الأوضاع في العراق سنة 1963.
العلاقات التي كان يتوفر عليها المهدي بن بركة مع زعماء دول عربية وضعوا طائراتهم الخاصة رهن إشارته، بل ووضعوا سفراءهم في دول أوربية رهن تصرفه لتلبية احتياجاته عندما كان محكوما غيابيا بالإعدام بعد مؤامرة يوليوز 1963، كانت أكبر من أن تجعله يطمح إلى العمل لصالح أجهزة تشيكوسلوفاكيا السرية، مقابل تعويضات هزيلة يحصل على أضعافها لدعم مشروعه في تأسيس حلف دول العالم الثالث، باعتباره رمزا من رموز اليسار في حقبة الستينيات.
وثائق تشيكية تحدثت عن «الشيخ» والباحث قال إنه المهدي
هنا، ونحن على مشارف استقبال سنة 2022، لا تزال سنة 1965 بكل ثقلها تلقي علينا بظل ثقيل لخيال المهدي بن بركة. «عريس الشهداء» كما يسميه رفاق الاتحاد، رغم أن بعضهم يتهم بعضهم باغتيال الزعيم رمزيا والتنكر لذكراه. لكن ذاك شأن «الاتحاد»، فلنتركه جانبا.
خرجت صحيفة «الكارديان»، واحدة من الصحف التي تنصب نفسها أحد حراس بوابة الإعلام في بريطانيا وأوروبا والعالم، لتنشر إفادة باحث تطرق لأرشيف وثائق مخابرات تشيكوسلوفاكيا في ستينيات القرن الماضي. ورغم أن هذا الباحث لم يكن اسمه أبدا مرتبطا بالبحث والتنقيب في قضية اختفاء المهدي بن بركة، إلا أنه أدلى بدلوه وكشف عن معطيات يقول إنه حصل عليها من أرشيف مخابرات بلاده، مفادها أن المهدي بن بركة كان عميلا للمخابرات التشيكوسلوفاكية، وأنه قدم لهم معلومات بشأن لقاءاته والمقابل كان أداء تذكرة الطائرة.
الوثائق عبارة عن أرشيف تقارير ضباط مخابرات تشيكوسلوفاكيا، تحدثوا عن عميل لهم باسم الشيخ، وسرعان ما قرن الباحث في جامعة براغ، «جان كورا»، بين لقب الشيخ وبين شخص المهدي بن بركة، وهي النقطة التي نسفت روايته في نظر عائلة المهدي بن بركة ورفاقه الذين تطوعوا للرد.
هذه النظرية التي قدمها «جان كورا»، مفادها أن المهدي بن بركة ربط اتصالات مع المخابرات التشيكوسلوفاكية سنة 1960، والتقى أهم جواسيس هذا الجهاز في باريس.
صحيفة «الغارديان» نشرت ملخصا عما وصفته بسلسلة عمليات نفذها المهدي بن بركة لصالح المخابرات التشيكوسلوفاكية.
هذه العمليات تراوحت، حسب المصدر نفسه، بين جمع المعلومات عن القادة العرب وتقديم معطيات عنهم وعن مخططاتهم وطريقة تفكيرهم للضباط التشيكوسلوفاكيين. وأهم هؤلاء الزعماء هو الرئيس المصري جمال عبد الناصر، بالإضافة إلى معلومات عن شخصيات قيادية في الجزائر، بحكم أن المهدي بن بركة كان صديقا مقربا للرئيس أحمد بن بلة.
المخابرات التشيكوسلوفاكية، حسب الباحث جان كورا، حصلت على معلومات من المهدي بن بركة بشأن التحركات الأمريكية في غينيا وحصل على أموال مقابل هذه المعلومات.
هذه الوثائق تتضمن معلومات عن قيام بن بركة بتقديم معلومات للتشيكوسلوفاكيين عقب عودته من زيارة إلى العراق في فبراير سنة 1963، حيث أخبرهم بمعلومات عن الانقلاب الذي وقع في بغداد والذي بدأ بعده نجم صدام حسين في الصعود، وتلقى المهدي بن بركة مقابل تلك المعلومات مبلغ 250 جنيها إسترلينيا.
هذه المعلومة بالذات أثارت حنق رفاق المهدي بن بركة، وعلق عليها الدكتور جان موران، الذي خص «الأخبار» بتصريح مطول عن علاقته بالمهدي بن بركة، حيث قال معلقا على هذه الجزئية: «هذا محض هراء، وكلام غير دقيق بالمرة ولا يصلح لكي يكون موضوع تقرير مخابراتي. في الحقيقة لم أعر الأمر أي اهتمام، إذ إن نفقات سفريات المهدي بن بركة ولقاءاته تفوق بكثير أضعاف المرات المبلغ الذي يقول التقرير إنه حصل عليه مقابل معلومات عن الأوضاع في العراق. ثم إن أوضاع العراق الداخلية وقتها لم تكن تحتاج إلى عمل جاسوسي لا من المهدي بن بركة، لو افترضنا أنه متورط، ولا من غيره. هذا الكلام كله غير دقيق».
هذا التعليق يتجاوب مع ما قدمته عائلة المهدي بن بركة ردا على الموضوع، وما نشره يزيد بن بركة وآخرون ممن انبروا للرد على مضامين تلك الوثائق.
عائلة بن بركة: «افتراءات» جان كورا غير دقيقة
كل الأنظار اتجهت صوب البشير بن بركة، على اعتبار أنه في السنوات الأخيرة كان الناطق الرسمي باسم العائلة حيث عاش محطات إخراج ملف المهدي بن بركة من جديد في المحاكم الفرنسية قبل عشرين سنة من اليوم ليعاد تسليط الضوء على تفاصيله بعد رحيل معظم الأسماء التي أثيرت في ملف الاختفاء الغامض لأشهر معارضي اليسار في العالم خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
وعلى عكس تصريحات ضابط الموساد السابق، رافي إيتان، التي قوبلت بتجاهل من طرف المقربين من المهدي بن بركة، والتي ألصق فيها إيتان دم المهدي ببذلة الجنرال أحمد الدليمي، فإن هذه المرة، عندما تعلق الأمر باتهام المهدي بالعمالة للمخابرات التشيكوسلوفاكية، انبرت العائلة للدفاع عن رمزها التاريخي.
إذ إن عائلة المهدي بن بركة قالت، في بلاغ توصلت «الأخبار» بنسخة منه، إن المعلومات التي قدمها الباحث جان كورا غير دقيقة نهائيا، وتتحدث عن علاقة بين عملائها في باريس والمهدي بن بركة، في وقت كان فيه المهدي بن بركة قد ترك باريس وانتقل إلى جنيف.
وفعلا هذا المعطى الذي أشارت إليه عائلة المهدي بن بركة يبقى مهما للغاية. إذ إن المهدي بن بركة كان كثير التنقل، لكن بريده الأساسي كان في جنيف، التي اشتغل منها على مؤتمر دول العالم الثالث الذي كان مزمعا عقده في هافانا بأمريكا اللاتينية سنة 1966، حيث اختفى المهدي بشكل غامض قبل المؤتمر بأشهر قليلة.
وهكذا تقول عائلة المهدي، في أبرز نقطة من الرد الذي خصصته للموضوع، إن الفترة التي تقول التقارير المزعومة إن المهدي ربط فيها الاتصال بباريس مع عملاء «براغ» كان فيها أساسا في جنيف.
تقول عائلة المهدي بن بركة، أيضا، إن الباحث لم يكن ملما بتفاصيل حياة المهدي بن بركة وخلص إلى استنتاجات متسرعة من تلك الوثائق، إذ قرن بين اسم المهدي بن بركة والاسم الحركي للعميل المذكور دون أن يدقق في الموضوع. وشددت عائلة المهدي بن بركة على أن المعطيات تبقى مبتورة من الوثائق التي لم تُنشر كاملة، كما أن الباحث حصل فقط على جزء منها، وتتوجب الإحاطة بالموضوع ككل قبل الوصول إلى خلاصات بهذا الحجم.
من جانبه، قال يزيد بن بركة إن الباحث تسرع عندما ربط بين صفة «الشيخ» التي تتضمنها الوثائق المذكورة، وبين المهدي بن بركة دون أن يقدم دليلا واحدا على هذا الربط.
ووصف يزيد بن بركة الأمر بالسخيف، في مقال منشور شرح فيه هذه الحيثيات، حيث جاء في رده: «في ما يتعلق بما يدعيه «التحقيق» بأن الشيخ يعمل لفائدة الاستخبارات التشيكية فالأمر سخيف لأن المهدي له علاقة مع كبار القادة في الأحزاب الشيوعية ومن ضمنها الحزب الشيوعي التشيكي، وعلاقات مع قادة من هذه الأحزاب تمارس السلطة، ونفس الأمر في ما يتعلق بالأحزاب التقدمية والشيوعية في كل بلدان العالم، والقول إن المهدي الذي له هذه العلاقات على أعلى مستوى في الدولة والحزب يرضى أن يتبادل خدمات مقابل أجر مع موظف في جهاز استخبارات لدولة من الدول وهو يلتقي الرئيس تيتو وخروتشوف وماو وجمال عبد الناصر. المهدي ليس في حاجة إلى أجر من أي جهة كانت، والأحزاب التقدمية والشيوعية المتسلمة للسلطة في بلدانها قد خصصت أقساطها لميزانية تشكيل منظمة القارات الثلاث، والمهدي لم يستجد أحدا في حياته، لا في مصاريفه وتنقلاته، ولا في عيش أسرته، وعلى كل فحاله وحال أسرته بعد مماته دليل على نصاعة ذمته. وتلك المساهمات بأقساط مالية هو نفس الأمر الذي كان في بداية تأسيس منظمة عدم الانحياز».
++++++++++++++++++++++++++++++++
جان موران: المال كان آخر همّ بن بركة
اتصلنا بثلاث شخصيات فرنسية لكي نستقي آراءها بخصوص ما نشرته صحيفة «الكَارديان» أخيرا عن المهدي بن بركة. اثنان منهما رفضا التعليق، واعتذرا بلطف في محاولة للبقاء بعيدا عن «الزوبعة»..، وطلبا بشكل منفصل ألا ننقل أي شيء على لسانهما، ولا حتى اتصالنا بهما. بينما الثالث، وهو زميل لهما، اسمه الدكتور جان موران، مقيم حاليا في كندا منذ سنة 2005.
حصل على الدكتوراه في الفيزياء، وتعرف على المهدي بن بركة عندما كان عضوا في الحزب الاشتراكي الفرنسي، حيث كان يحضر إلى شقة في باريس، كان المهدي بن بركة يتردد عليها كثيرا لتناول العشاء مع شخصيات يسارية فرنسية كلما زار باريس.
يقول جان موران في شهادته عن بن بركة: «أتذكر جيدا أول مرة التقيت فيها المهدي بن بركة. كان ذلك في باريس سنة 1963. لم أكن على موعد مسبق معه. بل فقط كنت في الشقة لأني كنت على موعد مع سياسي فرنسي يساعدني في التحضير لبحثي الجامعي، إذ كنت وقتها شابا في بداية مساري الأكاديمي، ولم يكن عمري يومها يتجاوز الخامسة والعشرين.
عندما دخل المهدي بن بركة توجه أولا إلى سماعة التلفون، ورفعها وأجرى بعض المكالمات مع عائلته ثم بعض أصدقائه ثم جلس معنا لتناول طعام الغداء. وفهمت أنه وصل لتوه من المطار.
طرح عليّ أسئلة بخصوص بحثي الجامعي ولاحظت أنه كان يريد التأكد من أنني فعلا طالب يتابع دراسته العليا. لم يستمر لقائي الأول مع المهدي سوى ساعة ونصف، انطلق بعدها حاملا حقيبته الصغيرة، وعندما كان يتوجه إلى الباب قال لي: «بالتوفيق في البحث».
أما المرة الثانية التي التقيت فيها المهدي بن بركة فقد كانت في الشهر الموالي تقريبا، حيث جلسنا في مطعم وسط باريس، وكنت بمعية بعض الشبان المغاربة والفرنسيين من اتحاد الطلبة. ضرب معنا المهدي بن بركة موعدا في الخامسة مساء، ثم غير الموعد إلى السابعة وغير أيضا المكان. ووقتها قال لي الشباب إن بن بركة يغير مواعده باستمرار في إطار الاحتياطات الأمنية لأنه مُلاحق دائما. وفعلا عندما كنا في المطعم، كان هناك عدد من الغرباء يلاحقونه. ومرة أخرى، بمجرد ما دخل المطعم حتى طلب جهاز التلفون، وأجرى مكالماته، وإحداها كانت مع أخيه الذي لم نتعرف عليه، وإنما جاء لاصطحابه بسيارة من المطعم. وقد كنت مصدوما وقتها لكثرة احتياطات هذا الرجل، وأخبرنا ممازحا ونحن نتناول الطعام أنه محكوم غيابيا بالإعدام في بلده وأن كل أنشطته مراقبة من طرف أجهزة المخابرات في فرنسا. حسنا، على كل حال، لم أر شخصا يكره الأمريكيين أكثر من المهدي بن بركة».
انتهت شهادة هذا الرجل في حق المهدي بن بركة. وعن تعليقه على الوثائق التشيكوسلوفاكية، يقول: «لا يخفى عليكم أن تشيكوسلوفاكيا كانت وقتها بمثابة باحة خلفية فقط للاتحاد السوفياتي. وشخصية المهدي بن بركة، كما عرفناه نحن الشباب الفرنسي، ولو لفترة قصيرة، كانت أكبر من أن تغريه أجهزة مخابرات دولة لم تكن قوية وقتها. يكفي مثلا أن أخبرك أن المهدي بن بركة كان يأتي من مصر أو الجزائر أو سوريا إلى باريس، على متن طائرة عادية، وكان يدفع مقابل طعامه في مطاعم عادية جدا جلسنا نحن الطلبة معه فيها، بينما كانت صداقاته مع السياسيين الفرنسيين وعلاقته برئيس الجمهورية الفرنسية تسمح له بأن يسافر في طائرات فخمة وأن ينزل في فنادق ومطاعم فاخرة، لكنه لم يكن يفعل. كل من يعرف المهدي بن بركة في ستينيات القرن الماضي، سوف يؤكد لك أن المال كان آخر همه».
بن بركة والموساد.. روايات متناقضة من المصدر
في سنة 2014، خرج أحد متقاعدي جهاز الموساد، واسمه رافي إيتان، في التلفزيون الإسرائيلي وقال إن الجنرال الدليمي هو الذي قتل المهدي بن بركة في باريس وجاء إليه طالبا مساعدته. إذ يقول رافي إيتان، في روايته تلك، إنه كان في مهمة بباريس، عندما كان يعمل على ملفات تتعلق بمراقبة سياسيين عرب من الشرق الأوسط، ليتفاجأ، على حد قوله، بباب شقته يُطرق في وقت متأخر من الليل، وعندما فتح الباب وجد أمامه الجنرال أحمد الدليمي في حالة من الهيجان والتخبط، وأخبره أنه قتل المهدي بن بركة في إحدى الفيلات في الضواحي، وطلب منه مرافقته لمساعدته على التخلص من الجثة. لكن رافي إيتان، حسب روايته دائما، لم يذهب معه في البداية وأخبره أن يدفن الجثة ويضع فوقها طبقة من مادة الجير.
وقبل رواية رافي إيتان من داخل جهاز الموساد، والتي أثارت جدلا كبيرا، قيل أيضا إن المهدي بن بركة كان يتعاون مع الموساد، وأنه كان يطلب دعما ماليا باستمرار، وفي إحدى المرات طلب أسلحة من إسرائيل وعندما قوبل طلبه بالرفض، وكان قد توجه بهذا الطلب إلى عملاء الموساد في باريس، أوصت إدارة الموساد بقطع العلاقات مع المهدي بن بركة، لأن الدعم الذي طلبه لا يمكن تحقيقه.
المهدي بن بركة لم يكن موجودا ليدافع عن نفسه، كما أن مصدر هذه الاتهامات، وهم ضباط سابقون في الموساد، لم يقدموا أي مراسلات بينهم وبين المهدي بن بركة من شأنها مثلا أن تزكي روايتهم.
وقد علق صحافيون فرنسيون، ومنهم من كان يتابع ملف المهدي بن بركة منذ محاكمة 1966 التي انطلقت بعد اختفائه، أي أنهم متخصصون في ملف بن بركة منذ أزيد من نصف قرن، وقالوا إن تلك الرواية، عن طلب بن بركة الدعم من الموساد، تفتقر إلى الدليل المادي وأيضا إلى المنطق. إذ إن معرفتهم بالمهدي بن بركة عن قرب والحوارات التي أجروها معه، وحتى تداعيات اختفائه من وسط باريس في واضحة النهار، كلها عوامل تؤكد أنه لو أراد دعما من أي جهاز في العالم لحصل عليه، خصوصا وأن مخابرات من جنسيات مختلفة كانت تلاحقه لتتجسس على بريده واجتماعاته أثناء تخطيطه لعقد مؤتمر إعلان ميلاد حلف دول العالم الثالث من هافانا في أمريكا اللاتينية، وهو الاجتماع الذي لم يكن يريد له الأمريكيون أن يُعقد.
الـCIA تجسست على زوجة بن بركة واهتمت ببريدها وملابسها
في باريس، كانت الأنظار كلها مشدودة إلى محاكمة المشتبه تورطهم في لغز اختفاء المهدي بن بركة. وكان الضيف الأبرز هو الجنرال أحمد الدليمي الذي ركب الطائرة من الرباط وحط في باريس، رغم أن اسمه كان من المطلوبين، وكان احتمال اعتقاله في المطار واردا جدا. لكنه توجه إلى مصيره معلنا للصحافة الفرنسية التي كانت تنتظره أمام المحكمة أنه في باريس لكي يدافع بنفسه عن براءته من دم المهدي بن بركة بعد أن أثير اسمه في المحاضر الأولى التي تلت عملية الاختطاف من أمام مطعم «ليب» وسط باريس.
كانت الساعة الضخمة في المطار تشير إلى منتصف النهار في يوم 11 شتنبر 1966. وبعض الصحفيين الفضوليين كانوا وقتها يراقبون الممشى الزجاجي في محاولات للتعرف على بعض الضيوف غير العاديين القادمين إلى فرنسا ذلك اليوم، على متن الرحلات المغربية.
لم تكن القادمة سوى مدام بن بركة، زوجة المعارض المغربي الذي اكتسحت صورته أشهر الصحف العالمية في ذلك الأسبوع، لمواكبة لغز اختفائه الغامض وسط باريس وفي واضحة النهار. زوجة المهدي بن بركة كان لها نصيبها من الاهتمام العالمي أيضا. فقد كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية توليها اهتماما كبيرا، وتبحث في معلوماتها الشخصية في محاولة لضبط علاقاتها وما إن كانت تحمل وصايا من زوجها أو معلومات حول حقيقة اختطافه.
فقد كانت تهم توجهها السلطات المغربية وقتها للمهدي بن بركة مفادها التعامل مع الأجهزة الأجنبية. وقد وجهت له تهم نشرتها صحف كانت محسوبة على أسماء نافذة في الدولة، تتهم المهدي بن بركة بعد اختفائه بالعمالة للموساد، وأحيانا لـCIA. لكن اتضح لاحقا، عندما تفجرت القضية في فرنسا، أن مسألة اختفاء المهدي بن بركة تتحمل فيها الأجهزة السرية المغربية مسؤولية كبيرة، وهو الكلام الذي أكده عبد الرحمن اليوسفي عندما وصل إلى الوزارة الأولى سنة 1998، وزكاه آخرون. ليتضح أن اتهام بن بركة بـ«العمالة» أو التجسس ضد المغرب، لم يكن يستند لمعطيات.
نشرت «نيو يورك دايلي نيوز» بالبنط العريض، في صفحتها الأولى لعدد 12 شتنبر 1966، خبرا تتناول فيه قدوم زوجة المهدي بن بركة إلى باريس. ويقول المقال إن غيثة بن بركة وصلت إلى باريس يوم الحادي عشر، بهدف متابعة محاكمة المتهمين باختطاف زوجها، وقد كان وقتها الكولونيل الدليمي قد جاء إلى باريس برجليه للمثول أمام المحكمة، لأن اسمه، بالإضافة إلى اسم الجنرال أوفقير، كانا على رأس قائمة الذين وُجهت لهم تهمة التورط في عملية الاختطاف.
هذا الاهتمام الكبير بزوجة المهدي بن بركة غذى وقتها الصورة التي كانت رائجة عن المهدي، ورجحت بعض الأوساط أن تكون علاقات بن بركة بصحفيين أمريكيين سبق له أن التقاهم في باريس وفي الشرق الأوسط هي التي حركت اهتمامهم بزوجته بعد اختفائه في محاولة لتسليط الضوء على قضيته.
الأكثر من هذا أن ضابط المخابرات الأمريكية السابق، ويليام بلوم، ذكر في مذكراته عن تجربته في الـCIA حيث اشتغل في العواصم العربية، ومنها الرباط، أن مخابرات بلاده طلبت تقارير مفصلة عن علاقات زوجة المهدي بن بركة، وطلبوا التجسس على هاتفها في الرباط وفي باريس التي انتقلت إليها بعد اختفاء زوجها، وطلبوا التدقيق حتى في هوية الضيوف الذين جاؤوا لإبداء التضامن معها.
إذ كانت CIA وقتها متخوفة من أن تربط زوجة بن بركة علاقات مع دول عربية، خصوصا سوريا والعراق والجزائر، بحكم أن هذه الدول معروفة وقتها بقربها من الاتحاد السوفياتي، ولم تكن تريد أن تستقطب هذه الأنظمة زوجة بن بركة إليها للاستقرار خلال سنة 1966، لأن ذلك كان يعني أن زوجة الرجل الذي كانت تلاحقه أجهزة مخابرات العالم أثناء إعداده لقمة هافانا، سوف تكون بعيدة عن أعين المراقبة.
ومن الطريف في المعلومات التي أشار إليها «ويليام بلوم» أن المخابرات الأمريكية اهتمت حتى بالماركات التي كانت تقتني منها زوجة بن بركة ملابسها، وطلبوا أن يتم تحديد مصدر المال الذي كانت تتوصل به، ليكتشفوا أن الأمر لم يكن يتعلق سوى بمساعدات مالية من رفاق المهدي بن بركة، وأنه لم يكن هناك أي حساب بنكي خاص تُحول إليه الأموال، كما كان متوقعا.
وهذا المعطى الأخير يكشف إلى أي حد كانت هناك مبالغات بشأن أنشطة المهدي بن بركة دوليا.
من اغتيال المساعدي إلى تلقي المال من تشيكوسلوفاكيا
منذ سنة 1956، تاريخ مفاوضات تسليم جيش التحرير المغربي لسلاحه، والتهم تلاحق المهدي بن بركة. فتارة اتهم بأنه كان وراء تصفية وطنيين من الخلايا المسلحة للمقاومة لأنهم رفضوا الانضمام إليه في حزب الاستقلال. وتارة أخرى اتهم بأنه مارس ضغطا على أطر المقاومة لكي يذهبوا معه سنة 1959 إلى تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم أن أغلب الشهادات التاريخية التي تعود إلى تلك الفترة تؤكد وجود رغبة ثورية لدى مؤسسي الاتحاد.
أحد الذين عاشوا تحولات سنة 1956 مع المهدي بن بركة، هو المقاوم والمناضل بن سعيد آيت يدر، الذي قمنا بقراءة في مذكراته المثيرة التي صدرت قبل عامين تقريبا. حيث جاء في شهادته عن بن بركة وعلاقته بتسليم سلاح المقاومة بعد حصول المغرب على الاستقلال، ما يلي: «تكلفتُ بمهمة إخراج الفقيه البصري وحسن صفي الدين وبونعيلات من الدار البيضاء بما في ذلك تهييء جوازات سفر خاصة وتعيين الطائرة التي سيغادرون على متنها إلى مدريد. كان اللقاء في العاصمة الإسبانية بدار الكبير الفاسي. بحضور المهدي بن بركة وعلال الفاسي والدكتور الخطيب والحسين برادة وعباس المسعدي وآخرين من بينهم كاتب هذه السطور. كان الغرض من هذا الاجتماع تقييم الأوضاع السياسية والعسكرية واستشراف الآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب. مع التنسيق مع قيادة حزب الاستقلال وجيش التحرير.
(..) تمخض الاجتماع عن مجموعة من الاتفاقات صادقنا عليها بالإجماع. من بينها عدم تجريد جيش التحرير من سلاحه. مع جعله النواة الأولى للجيش الوطني في وقت لم يكن فيه الجيش الملكي قد رأى النور بعدُ. ومحاكمة الخونة الذين تعاملوا مع سلطات الاحتلال. واستمرار الكفاح المسلح».
منذ ذلك التاريخ، والمهدي بن بركة يخوض الاجتماعات السرية وينسق بين الخلايا من سلطة ومعارضة، حتى أن أصدقاءه اليوم وخصومه أيضا، يشهدون أنه كان شعلة من النشاط، وترك فراغا كبيرا جدا بعد اختفائه الغامض في أكتوبر 1956.
أيت إيدر كان من القلائل الذين تحدثوا بوضوح وحسموا في علاقة المهدي بن بركة باغتيال عباس المسعدي. حيث قال في مذكراته، وهو الذي عاش تلك الكواليس عن قرب: ««كان المقصود هو تشويه صورة المهدي. فالرجل كان يمثل الوجه الأبرز للحداثة في المغرب غداة الاستقلال وهو الحامل لمشروع دولة عصرية ديموقراطية محصنة ومستقلة تنتمي إلى العصر بكل معنى الكلمة. (..) بن بركة كان أكبر من عباس المسعدي ولم يكن يحتاج إلى تصفية أي كان. لأن الاغتيال أو القتل كان أبعد ما يكون عن شخصيته. وله من القوة والإرادة والذكاء ما يجعله يبلغ أهدافه التي لم يحد أي منها عن القيم الإنسانية الكبرى التي كان يحملها. لكن مع الأسف استغلت الدولة اغتيال المسعدي لمحاولة خدش صورة المهدي».
عندما نبسط أمامنا كل هذه الأوراق، يبدو من المُريب فعلا أن يسعى المهدي بن بركة إلى تقديم معلومات إلى أجهزة دولة «تشيكوسلوفاكيا»، وهي الدولة التي لم تكن في مصاف الدول العظمى وقتها، ويحصل، كما تقول الوثائق التي كشفت عنها «الـكَارديان»، على تذكرة طائرة مجانية. في وقت كان بإمكانه الحصول على ملايين الدولارات بمكالمة هاتفية واحدة إلى دمشق، القاهرة، موسكو، أو حتى واشنطن!